بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌۭ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوٓا۟ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًۭا ﴿1﴾
التفسير:
سورة الجنمكية في قول الجميع . وهي ثمان وعشرون آيةبسم الله الرحمن الرحيمقل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبافيه خمس مسائل :الأولى : قوله تعالى : قل أوحي إلي أي قل يا محمد لأمتك : أوحى الله إلي على لسان جبريل أنه استمع إلي نفر من الجن وما كان - عليه السلام - عالما به قبل أن أوحى إليه . هكذا قال ابن عباس وغيره على ما يأتي . وقرأ ابن أبي عبلة ( أحي ) على الأصل ; يقال أوحى إليه ووحى ، فقلبت الواو همزة ، ومنه قوله تعالى : وإذا الرسل أقتت وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة . وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإسادة و ( إعاء أخيه ) ونحوه .الثانية : واختلف هل رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ فظاهر القرآن يدل على أنه لم يرهم ; لقوله تعالى : استمع ، وقوله تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . وفي صحيح مسلم والترمذي عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجن وما رآهم ، انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ; فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ! قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ; فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء . فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا فأنزل الله - عز وجل - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن : رواه الترمذي عن ابن عباس قال : قول الجن لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قال : لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال : تعجبوا من طواعية أصحابه له ، قالوا لقومهم : لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا . قال : هذا حديث حسن صحيح ; ففي هذا الحديث دليل على أنه - عليه السلام - لم ير الجن ولكنهم حضروه ، وسمعوا قراءته . وفيه دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب . وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا .وقيل لهم شياطين كما قال : شياطين الإنس والجن فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله . وفي الترمذي عن ابن عباس قال : كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، فأما الكلمة فتكون حقا ، وأما ما زادوا فيها ، فيكون باطلا . فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك ، فقال لهم إبليس : ما هذا الأمر إلا من أمر قد حدث في الأرض ! فبعث جنوده فوجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائما يصلي بين جبلين - أراه قال بمكة - فأتوه فأخبروه فقال : هذا الحديث الذي حدث في الأرض . قال : هذا حديث حسن صحيح .فدل هذا الحديث على أن الجن رموا كما رميت الشياطين . وفي رواية السدي : إنهم لما رموا أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم فقال : إيتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال : صاحبكم بمكة . فبعث نفرا من الجن ، قيل : كانوا سبعة . وقيل : تسعة منهم زوبعة .وروى عاصم عن زر قال : قدم رهط زوبعة وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال الثمالي : بلغني أنهم من بني الشيصبان ، وهم أكثر الجن عددا ، وأقواهم شوكة ، وهم عامة جنود إبليس . وروى أيضا عاصم عن زر : أنهم كانوا سبعة نفر ; ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين . وحكى جويبر عن الضحاك : أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين ( قرية باليمن غير التي بالعراق ) . وقيل : إن الجن الذين أتوا مكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوى . وقد مضى بيان هذا في سورة ( الأحقاف ) .قال عكرمة : والسورة التي كان يقرؤها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اقرأ باسم ربك وقد مضى في سورة ( الأحقاف ) التعريف باسم النفر من الجن ، فلا معنى لإعادة ذلك .وقيل : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى الجن ليلة الجن وهو أثبت ; روى عامر الشعبي قال : سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ؟ فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا استطير أو اغتيل ، قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبح إذا هو يجيء من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله ! فقدناك وطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ; فقال : " أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن " فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة ، فقال : " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة علف لدوابكم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فلا تستنجوا بهما ، فإنهما طعام إخوانكم الجن " .قال ابن العربي : وابن مسعود أعرف من ابن عباس ; لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة .وقد قيل : إن الجن أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفعتين : إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود ، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس .قال البيهقي : الذي حكاه عبد الله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمت بحاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود .قال البيهقي : والأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ، وإنما سار معه حين انطلق به وبغيره يريه آثار الجن وآثار نيرانهم . قال : وقد روي من غير وجه أنه كان معه ليلتئذ ، وقد مضى هذا المعنى في سورة ( الأحقاف ) والحمد لله .روي عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي ؟ " فسكتوا ، ثم قال الثانية ، ثم قال الثالثة ، ثم قال عبد الله بن مسعود : أنا أذهب معك يا رسول الله ، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب فخط علي خطا فقال : " لا تجاوزه " ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون الحجارة بأقدامهم ، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها ، حتى غشوه فلا أراه ، فقمت فأومى إلي بيده أن اجلس ، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم ، فلما انفتل إلي قال : " أردت أن تأتيني " ؟ قلت : نعم يا رسول الله . قال : " ما كان ذلك لك ، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن ، ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر " .قال عكرمة : وكانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل . وفي رواية : انطلق بي - عليه السلام - حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطا ، فأتاه نفر منهم فقال أصحابنا كأنهم رجال الزط وكأن وجوههم المكاكي ، فقالوا : ما أنت ؟ قال : " أنا نبي الله " قالوا : فمن يشهد لك على ذلك ؟ قال : " هذه الشجرة " فقال : " يا شجرة " فجاءت تجر عروقها ، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه ، فقال : " على ماذا تشهدين " قالت : أشهد أنك رسول الله . فرجعت كما جاءت تجر بعروقها الحجارة ، لها قعاقع حتى عادت كما كانت . ثم روي أنه - عليه السلام - لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ فقال : " هل من وضوء " قال : لا ، إلا أن معي إداوة فيها نبيذ . فقال : " هل هو إلا تمر وماء " فتوضأ منه .الثالثة : قد مضى الكلام في الماء في سورة ( الحجر ) وما يستنجى به في سورة ( براءة ) فلا معنى للإعادة .الرابعة : واختلف أهل العلم في أصل الجن ; فروى إسماعيل عن الحسن البصري : أن الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثواب والعقاب ، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان .وروى الضحاك عن ابن عباس أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ، وهم يؤمنون ; ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس . واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة على حسب الاختلاف في أصلهم ، فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال : يدخلون الجنة بإيمانهم . ومن قال : إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان : أحدهما : وهو قول الحسن يدخلونها . الثاني : وهو رواية مجاهد لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار . حكاه الماوردي . وقد مضى في سورة ( الرحمن ) عند قوله تعالى : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان بيان أنهم يدخلونها .الخامسة : قال البيهقي في روايته : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال : ( لكم كل عظم ) دليل على أنهم يأكلون ويطعمون . وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن ، وقالوا : إنهم بسائط ، ولا يصح طعامهم ; اجتراء على الله وافتراء ، والقرآن والسنة ترد عليهم ، وليس في المخلوقات بسيط مركب مزدوج ، إنما الواحد الواحد سبحانه ، وغيره مركب وليس بواحد كيفما تصرف حاله ، وليس يمتنع أن يراهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورهم كما يرى الملائكة .وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات ; ففي الموطأ أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنصاف النهار أن يرجع إلى أهله . . . الحديث ، وفيه : فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها . وذكر الحديث .وفي الصحيح أنه - عليه السلام - قال : إن لهذه البيوت عوامر ، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر . وقال : " اذهبوا فادفنوا صاحبكم " وقد مضى هذا المعنى في سورة ( البقرة ) وبيان التحريج عليهن .وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة ; لقوله في الصحيح : " إن بالمدينة جنا قد أسلموا " . وهذا لفظ مختص بها فيختص بحكمها . قلنا : هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها ; لأنه لم يعلل بحرمة المدينة ، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها ، وإنما علل بالإسلام ، وذلك عام في غيرها ، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذي لقي : ( وكانوا من جن الجزيرة ) ; وهذا بين يعضده قوله : " ونهى عن عوامر البيوت " وهذا عام . وقد مضى في سورة ( البقرة ) القول في هذا فلا معنى للإعادة .قوله تعالى : فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا أي في فصاحة كلامه . وقيل : عجبا في بلاغة مواعظه . وقيل : عجبا في عظم بركته . وقيل : قرآنا عزيزا لا يوجد مثله . وقيل : يعنون عظيما .
يَهْدِىٓ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَـَٔامَنَّا بِهِۦ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًۭا ﴿2﴾
التفسير:
يهدي إلى الرشد أي إلى مراشد الأمور . وقيل : إلى معرفة الله تعالى ; ويهدي في موضع الصفة أي هاديا . فآمنا به أي فاهتدينا به وصدقنا أنه من عند الله ولن نشرك بربنا أحدا أي لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه ; لأنه الذي كان بعثهم ليأتوه بالخبر ، ثم رمي الجن بالشهب . وقيل لا نتخذ مع الله إلها آخر ; لأنه المتفرد بالربوبية . وفي هذا تعجيب المؤمنين بذهاب مشركي قريش عما أدركته الجن بتدبرها القرآن .وقوله تعالى : استمع نفر من الجن أي استمعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلموا أن ما يقرؤه كلام الله . ولم يذكر المستمع إليه لدلالة الحال عليه . والنفر الرهط ; قال الخليل : ما بين ثلاثة إلى عشرة . وقرأ عيسى الثقفي يهدي إلى الرشد بفتح الراء والشين .
وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةًۭ وَلَا وَلَدًۭا ﴿3﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأنه تعالى جد ربنا كان علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي ينصبون أن في جميع السورة في اثني عشر موضعا ، وهو : أنه تعالى جد ربنا ، وأنه كان يقول ، وأنا ظننا ، وأنه كان رجال ، وأنهم ظنوا ، وأنا لمسنا السماء ، وأنا كنا نقعد ، وأنا لا ندري ، وأنا منا الصالحون وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ، وأنا لما سمعنا الهدى ، وأنا منا المسلمون عطفا على قوله : أنه استمع نفر ، وأنه استمع لا يجوز فيه إلا الفتح ; لأنها في موضع اسم فاعل أوحي فما بعده معطوف عليه . وقيل : هو محمول على الهاء في آمنا به ، أي وب " أنه تعالى جد ربنا " وجاز ذلك وهو مضمر مجرور لكثرة حرف الجر مع أن .وقيل : المعنى أي وصدقنا أنه جد ربنا ، وقرأ الباقون كلها بالكسر وهو الصواب ، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم عطفا على قوله : فقالوا إنا سمعنا لأنه كله من كلام الجن . وأما أبو جعفر وشيبة فإنهما فتحا ثلاثة مواضع ; وهي قوله تعالى : وأنه تعالى جد ربنا ، وأنه كان يقول ، وأنه كان رجال ، قالا : لأنه من الوحي ، وكسرا ما بقي ; لأنه من كلام الجن . وأما قوله تعالى : وأنه لما قام عبد الله . فكلهم فتحوا إلا نافعا وشيبة وزر بن حبيش وأبا بكر والمفضل عن عاصم ، فإنهم كسروا لا غير . ولا خلاف في فتح همزة أنه استمع نفر من الجن ، وأن لو استقاموا وأن المساجد لله و أن قد أبلغوا . وكذلك لا خلاف في كسر ما بعد القول ; نحو قوله تعالى : فقالوا إنا سمعنا و ( قال إنما أدعو ربي ) و قل إن أدري و قل إني لا أملك وكذلك لا خلاف في كسر ما كان بعد فاء الجزاء ; نحو قوله تعالى : فإن له نار جهنم و فإنه يسلك من بين يديه لأنه موضع ابتداء .وأنه تعالى جد ربنا الجد في اللغة : العظمة والجلال ; ومنه قول أنس : كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا ; أي عظم وجل . فمعنى : جد ربنا أي عظمته وجلاله ; قال عكرمة ومجاهد وقتادة . وعن مجاهد أيضا : ذكره . وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا : غناه . ومنه قيل للحظ جد ، ورجل مجدود أي محظوظ ; وفي الحديث : ولا ينفع ذا الجد منك الجد قال أبو عبيدة والخليل : أي ذا الغنى ، منك الغنى ، إنما تنفعه الطاعة . وقال ابن عباس : قدرته . الضحاك : فعله . وقال القرظي والضحاك أيضا : آلاؤه ونعمه على خلقه . وقال أبو عبيدة والأخفش ملكه وسلطانه . وقال السدي : أمره . وقال سعيد بن جبير : وأنه تعالى جد ربنا أي تعالى ربنا . وقيل : إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أب الأب ، ويكون هذا من قول الجن .وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع : ليس لله تعالى جد ، وإنما قالته الجن للجهالة ، فلم يؤاخذوا به . وقال القشيري : ويجوز إطلاق لفظ الجد في حق الله تعالى ; إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن ، غير أنه لفظ موهم ، فتجنبه أولى . وقراءة عكرمة ( جد ) بكسر الجيم : على ضد الهزل . وكذلك قرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع . ويروى عن ابن السميقع أيضا وأبي الأشهب ( جدا ربنا ) ، وهو الجدوى والمنفعة . وقرأ عكرمة أيضا ( جدا ) بالتنوين ( ربنا ) بالرفع على أنه مرفوع ، ب ( تعالى ) ، و ( جدا ) منصوب على التمييز . وعن عكرمة أيضا ( جد ) بالتنوين والرفع ( ربنا ) بالرفع على تقدير : تعالى جد جد ربنا ; فجد الثاني بدل من الأول وحذف وأقيم المضاف إليه مقامه . ومعنى الآية : وأنه تعالى جلال ربنا أن يتخذ صاحبة وولدا للاستئناس بهما والحاجة إليهما ، والرب يتعالى عن الأنداد والنظراء .
وَأَنَّهُۥ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطًۭا ﴿4﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا الهاء في أنه للأمر أو الحديث ، وفي كان اسمها ، وما بعدها الخبر . ويجوز أن تكون كان زائدة . والسفيه هنا إبليس في قول مجاهد وابن جريج وقتادة . ورواه أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : المشركون من الجن : قال قتادة : عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس . والشطط والاشتطاط : الغلو في الكفر . وقال أبو مالك : هو الجور . الكلبي : هو الكذب . وأصله العبد فيعبر به عن الجور لبعده عن العدل ، وعن الكذب لبعده عن الصدق ; قال الشاعر :بأية حال حكموا فيك فاشتطوا وما ذاك إلا حيث يممك الوخط
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلْإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًۭا ﴿5﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأنا ظننا أي حسبنا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا ، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولدا ، حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق . وقرأ يعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق ( أن لن تقول ) .
وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالٌۭ مِّنَ ٱلْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍۢ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًۭا ﴿6﴾
التفسير:
وقيل : انقطع الإخبار عن الجن هاهنا فقال الله تعالى : وأنه كان رجال من الإنس فمن فتح وجعله من قول الجن ردها إلى قوله : أنه استمع ، ومن كسر جعلها مبتدأ من قول الله تعالى . والمراد به ما كانوا يفعلونه من قول الرجل إذا نزل بواد : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ; فيبيت في جواره حتى يصبح ; قاله الحسن وابن زيد وغيرهما .قال مقاتل : كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن ، ثم من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم . وقال كردم بن أبي السائب : خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم ، فقال الراعي : يا عامر الوادي ، [ أنا ] جارك . فنادى مناد يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد . وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا أي زاد الجن الإنس رهقا أي خطيئة وإثما ; قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة . والرهق : الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم ; ورجل رهق إذا كان كذلك ; ومنه قوله تعالى : وترهقهم ذلة وقال الأعشى :لا شيء ينفعني من دون رؤيتها هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقايعني إثما . وأضيفت الزيادة إلى الجن إذ كانوا سببا لها . وقال مجاهد أيضا : فزادوهم أي إن الإنس زادوا الجن طغيانا بهذا التعوذ ، حتى قالت الجن : سدنا الإنس والجن . وقال قتادة أيضا وأبو العالية والربيع وابن زيد : ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن .وقال سعيد بن جبير : كفرا . ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك . وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجن ; فالمعنى : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس ، وكان الرجل من الإنس يقول مثلا : أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي . قال القشيري : وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجال على الجن .
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا۟ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَدًۭا ﴿7﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا هذا من قول الله تعالى للإنس ; أي وأن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم . الكلبي : المعنى : ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه يقيم به الحجة عليهم . وكل هذا توكيد للحجة على قريش ; أي إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد ، فأنتم أحق بذلك .
وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَٰهَا مُلِئَتْ حَرَسًۭا شَدِيدًۭا وَشُهُبًۭا ﴿8﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأنا لمسنا السماء هذا من قول الجن ; أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا فوجدناها قد ملئت حرسا شديدا أي حفظة ، يعني الملائكة . والحرس : جمع حارس وشهبا جمع شهاب ، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراق السمع . وقد مضى القول فيه في سورة ( الحجر ) ( والصافات ) . و ( وجد ) يجوز أن يقدر متعديا إلى مفعولين ، فالأول الهاء والألف ، و ملئت في موضع المفعول الثاني . ويجوز أن يتعدى إلى مفعول واحد ويكون ملئت في موضع الحال على إضمار قد . و ( حرسا ) نصب على المفعول الثاني ب " ملئت " . وشديدا من نعت الحرس ، أي ملئت ملائكة شدادا . ووحد الشديد على لفظ الحرس ; وهو كما يقال : السلف الصالح بمعنى الصالحين ، وجمع السلف أسلاف وجمع الحرس أحراس ; قال :تجاوزت أحراسا وأهوال معشرويجوز أن يكون " حرسا " مصدرا على معنى حرست حراسة شديدة .
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَٰعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلْءَانَ يَجِدْ لَهُۥ شِهَابًۭا رَّصَدًۭا ﴿9﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا . منها أي من السماء ، و " مقاعد " : مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء ; يعني أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة على ما تقدم بيانه ، فحرسها الله تعالى حين بعث رسوله بالشهب المحرقة ، فقالت الجن حينئذ : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا يعني بالشهاب الكوكب المحرق ; وقد تقدم بيان ذلك .ويقال : لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو آية من آياته . واختلف السلف هل كانت الشياطين تقذف قبل المبعث ، أو كان ذلك أمرا حدث لمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال الكلبي وقال قوم : لم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد - صلوات الله عليهما وسلامه - خمسمائة عام ، وإنما كان من أجل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - منعوا من السماوات كلها ، وحرست بالملائكة والشهب .قلت : ورواه عطية العوفي عن ابن عباس ; ذكره البيهقي . وقال عبد الله بن عمر : لما كان اليوم الذي نبئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منعت الشياطين ، ورموا بالشهب ، وقال عبد الملك بن سابور : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - ، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - حرست السماء ، ورميت الشياطين بالشهب ، ومنعت عن الدنو من السماء .وقال نافع بن جبير : كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى ، فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رميت بالشهب . ونحوه عن أبي بن كعب قال : لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى نبئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرمي بها . وقيل : كان ذلك قبل المبعث ، وإنما زادت بمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنذارا بحاله ; وهو معنى قوله تعالى : ملئت أي زيد في حرسها ; وقال أوس بن حجر وهو جاهلي :فانقض كالدري يتبعه نقع يثور تخاله طنباوهذا قول الأكثرين . وقد أنكر الجاحظ هذا البيت وقال : كل شعر روي فيه فهو مصنوع ، وأن الرمي لم يكن قبل المبعث . والقول بالرمي أصح ; لقوله تعالى : فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا . وهذا إخبار عن الجن ، أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت منها ومنهم ; ولما روي عن ابن عباس قال : بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم ; فقال : " ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية " ؟ قالوا : كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا - سبحانه وتعالى - إذا قضى أمرا في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء ، حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه ، فتتخطف الجن فيرمون فما جاءوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه " .وهذا يدل على أن الرجم كان قبل المبعث . وروى الزهري نحوه عن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب عن ابن عباس . وفي آخره قيل للزهري : أكان يرمى في الجاهلية ؟ قال : نعم . قلت : أفرأيت قوله سبحانه : وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - . ونحوه قال القتبي . قال ابن قتيبة : كان ولكن اشتدت الحراسة بعد المبعث ; وكانوا من قبل يسترقون ويرمون في بعض الأحوال ، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - منعت من ذلك أصلا . وقد تقدم بيان هذا في سورة ( الصافات ) عند قوله : ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب قال الحافظ : فلو قال قائل : كيف تتعرض الجن لإحراق نفسها بسبب استماع خبر بعد أن صار ذلك معلوما لهم ؟ فالجواب أن الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة ، كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم ، وأن الله تعالى قال له : وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ولولا هذا لما تحقق التكليف .والرصد : قيل من الملائكة ; أي ورصدا من الملائكة . والرصد : الحافظ للشيء والجمع أرصاد ، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعا كالحرس ، والواحد : راصد . وقيل : الرصد هو الشهاب ، أي شهابا قد أرصد له ، ليرجم به ; فهو فعل بمعنى مفعول كالخبط والنفض .
وَأَنَّا لَا نَدْرِىٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى ٱلْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًۭا ﴿10﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أي هذا الحرس الذي حرست بهم السماء أم أراد بهم ربهم رشدا أي خيرا . قال ابن زيد : قال إبليس لا ندري ، هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا أو يرسل إليهم رسولا . وقيل : هو من قول الجن فيما بينهم قبل أن يسمعوا قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - . أي لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد إليهم ، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم ، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا ; فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان ; وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي . وقيل : لا ; بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين ; أي لما آمنوا أشفقوا ألا يؤمن كثير من أهل الأرض فقالوا : إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون ؟
وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدًۭا ﴿11﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك هذا من قول الجن ، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون . وقيل : ومنا دون ذلك أي ومن دون الصالحين في الصلاح ، وهو أشبه من حمله على الإيمان والشرك . كنا طرائق قددا أي فرقا شتى ; قاله السدي . الضحاك : أديانا مختلفة . قتادة : أهواء متباينة ; ومنه قول الشاعر :القابض الباسط الهادي بطاعته في فتنة الناس إذ أهواؤهم قددوالمعنى : أي لم يكن كل الجن كفارا بل كانوا مختلفين : منهم كفار ، ومنهم مؤمنون صلحاء ، ومنهم مؤمنون غير صلحاء .وقال المسيب : كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس . وقال السدي في قوله تعالى : طرائق قددا قال : في الجن مثلكم قدرية ، ومرجئة ، وخوارج ، ورافضة ، وشيعة ، وسنية .وقال قوم : أي وإنا بعد استماع القرآن مختلفون : منا المؤمنون ومنا الكافرون . أي ومنا الصالحون ومنا مؤمنون لم يتناهوا في الصلاح . والأول أحسن ; لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى ، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا : إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة ، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان . وأيضا لا فائدة في قولهم : نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر .والطرائق : جمع الطريقة وهي مذهب الرجل ، أي كنا فرقا مختلفة . ويقال : القوم طرائق أي على مذاهب شتى . والقدد : نحو من الطرائق وهو توكيد لها ، واحدها : قدة . يقال : لكل طريق قدة ، وأصلها من قد السيور ، وهو قطعها ; قال لبيد يرثي أخاه أربد :لم تبلغ العين كل نهمتها ليلة تمسي الجياد كالقددوقال آخر :ولقد قلت وزيد حاسر يوم ولت خيل عمرو قدداوالقد بالكسر : سير يقد من جلد غير مدبوغ ; ويقال : ما له قد ولا قحف ; فالقد : إناء من جلد ، والقحف : من خشب .
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُۥ هَرَبًۭا ﴿12﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض الظن هنا بمعنى العلم واليقين ، وهو خلاف الظن في قوله تعالى : وأنا ظننا أن لن تقول ، وأنهم ظنوا أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله ، أنا في قبضته وسلطانه ، لن نفوته بهرب ولا غيره . و هربا مصدر في موضع الحال أي هاربين .
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰٓ ءَامَنَّا بِهِۦ ۖ فَمَن يُؤْمِنۢ بِرَبِّهِۦ فَلَا يَخَافُ بَخْسًۭا وَلَا رَهَقًۭا ﴿13﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأنا لما سمعنا الهدى يعني القرآن آمنا به وبالله ، وصدقنا محمدا - صلى الله عليه وسلم - على رسالته . وكان - صلى الله عليه وسلم - مبعوثا إلى الإنس والجن .قال الحسن : بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى الإنس والجن ، ولم يبعث الله تعالى قط رسولا من الجن ، ولا من أهل البادية ، ولا من النساء ; وذلك قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وقد تقدم هذا المعنى .وفي الصحيح : وبعثت إلى الأحمر والأسود أي الإنس والجن .فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا قال ابن عباس : لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته ; لأن البخس النقصان والرهق : العدوان وغشيان المحارم ; قال الأعشى :لا شيء ينفعني من دون رؤيتها هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقاالوامق : المحب ; وقد ومقه يمقه بالكسر أي أحبه ، فهو وامق . وهذا قول حكاه الله تعالى عن الجن ; لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم . وقراءة العامة فلا يخاف رفعا على تقدير فإنه لا يخاف . وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم ( فلا يخف ) جزما على جواب الشرط وإلغاء الفاء .
وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَٰسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُو۟لَٰٓئِكَ تَحَرَّوْا۟ رَشَدًۭا ﴿14﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون أي وأنا بعد استماع القرآن مختلفون ، فمنا من أسلم ومنا من كفر .والقاسط : الجائر ، لأنه عادل عن الحق ، والمقسط : العادل ; لأنه عادل إلى الحق ; يقال : قسط : أي جار ، وأقسط : إذا عدل ; قال الشاعر :قوم هم قتلوا ابن هند عنوة عمرا وهم قسطوا على النعمانفمن أسلم فأولئك تحروا رشدا أي قصدوا طريق الحق وتوخوه ومنه تحرى القبلة
وَأَمَّا ٱلْقَٰسِطُونَ فَكَانُوا۟ لِجَهَنَّمَ حَطَبًۭا ﴿15﴾
التفسير:
وأما القاسطون أي الجائرون عن طريق الحق والإيمان فكانوا لجهنم حطبا أي وقودا . وقوله : فكانوا أي في علم الله تعالى .
وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُوا۟ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًۭا ﴿16﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة هذا من قول الله تعالى . أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق . وهذا محمول على الوحي ; أي أوحي إلي أن لو استقاموا . ذكر ابن بحر : كل ما في هذه السورة من إن المكسورة المثقلة فهي حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن ، فرجعوا إلى قومهم منذرين ، وكل ما فيها من أن المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .وقال ابن الأنباري : ومن كسر الحروف وفتح وأن لو استقاموا أضمر يمينا تاما ، تأويلها : والله أن لو استقاموا على الطريقة ; كما يقال في الكلام : والله أن قمت لقمت ، ووالله لو قمت قمت ; قال الشاعر :أما والله أن لو كنت حرا وما بالحر أنت ولا العتيقومن فتح ما قبل المخففة نسقها - أعني الخفيفة - على أوحي إلي أنه ، وأن لو استقاموا أو على آمنا به وبأن لو استقاموا . ويجوز لمن كسر الحروف كلها إلى أن المخففة ، أن يعطف المخففة على أوحي إلي أو على آمنا به ، ويستغني عن إضمار اليمين . وقراءة العامة بكسر الواو من لو لالتقاء الساكنين ، وقرأ ابن وثاب والأعمش بضم الواو .و ماء غدقا أي واسعا كثيرا ، وكانوا قد حبس عنهم المطر سبع سنين ; يقال : غدقت العين تغدق ، فهي غدقة ، إذا كثر ماؤها . وقيل : المراد الخلق كلهم أي لو استقاموا على الطريقة طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين لأسقيناهم ماء غدقا أي كثيرا
لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِۦ يَسْلُكْهُ عَذَابًۭا صَعَدًۭا ﴿17﴾
التفسير:
لنفتنهم فيه أي لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم . وقال عمر في هذه الآية : أينما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة .فمعنى لأسقيناهم لوسعنا عليهم في الدنيا ; وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا ; لأن الخير والرزق كله بالمطر يكون ، فأقيم مقامه ; كقوله تعالى : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض وقوله تعالى : ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم أي بالمطر . والله أعلم .وقال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل وعطية وعبيد بن عمير والحسن : كان والله أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سامعين مطيعين ، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي ، ففتنوا بها ، فوثبوا على إمامهم فقتلوه . يعني عثمان بن عفان .وقال الكلبي وغيره : وأن لو استقاموا على الطريقة التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفارا لوسعنا أرزاقهم مكرا بهم واستدراجا لهم ، حتى يفتتنوا بها ، فنعذبهم بها في الدنيا والآخرة . وهذا قول قاله الربيع بن أنس وزيد بن أسلم وابنه والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وأبو مجلز ، واستدلوا بقوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء الآية . وقوله تعالى : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة الآية ; والأول أشبه ; لأن الطريقة معرفة بالألف واللام ، فالأوجب أن تكون طريقته طريقة الهدى ; ولأن الاستقامة لا تكون إلا مع الهدى .وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا . قالوا : وما زهرة الدنيا ؟ قال : بركات الأرض وذكر الحديث . وقال - عليه السلام - : فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم .قوله تعالى : ومن يعرض عن ذكر ربه يعني القرآن ; قاله ابن زيد . وفي إعراضه عنه وجهان : أحدهما : عن القبول ، إن قيل إنها في أهل الكفر . الثاني : عن العمل ، إن قيل إنها في المؤمنين .وقيل : ومن يعرض عن ذكر ربه أي لم يشكر نعمه يسلكه عذابا صعدا قرأ الكوفيون وعياش عن أبي عمرو يسلكه بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ; لذكر اسم الله أولا فقال : ومن يعرض عن ذكر ربه . الباقون نسلكه بالنون . وروي عن مسلم بن جندب ضم النون وكسر اللام . وكذلك قرأ طلحة والأعرج وهما لغتان ، سلكه وأسلكه بمعنى ; أي ندخله . عذابا صعدا أي شاقا شديدا .قال ابن عباس : هو جبل ، في جهنم . [ الخدري : ] كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت .وعن ابن عباس أن المعنى مشقة من العذاب . وذلك معلوم في اللغة أن الصعد : المشقة ، تقول : تصعدني الأمر : إذا شق عليك ; ومنه قول عمر : ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح ، أي ما شق علي . وعذاب صعد أي شديد . والصعد : مصدر صعد ; يقال : صعد صعدا وصعودا ، فوصف به العذاب ; لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه .وقال أبو عبيدة : الصعد مصدر ; أي عذابا ذا صعد ، والمشي في الصعود يشق . والصعود : العقبة الكئود . وقال عكرمة : هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها ; فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم .وقال الكلبي : يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلا في النار من صخرة ملساء ، يجذب من أمامه بسلاسل ، ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها ، ولا يبلغ في أربعين سنة . فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ، ثم يكلف أيضا صعودها ، فذلك دأبه أبدا ، وهو قوله تعالى : سأرهقه صعودا .
وَأَنَّ ٱلْمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا۟ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدًۭا ﴿18﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدافيه ست مسائل :الأولى : قوله تعالى : وأن المساجد لله ( أن ) بالفتح ، قيل : هو مردود إلى قوله تعالى : قل أوحي إلي أي قل أوحي إلي أن المساجد لله . وقال الخليل : أي ولأن المساجد لله . والمراد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة . وقال سعيد بن جبير : قالت الجن كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناءون عنك ؟ فنزلت : وأن المساجد لله أي بنيت لذكر الله وطاعته .وقال الحسن : أراد بها كل البقاع ; لأن الأرض كلها مسجد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : " أينما كنتم فصلوا فأينما صليتم فهو مسجد " ، وفي الصحيح : وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا .وقال سعيد بن المسيب وطلق بن حبيب : أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد ، وهي القدمان والركبتان واليدان والوجه ; يقول : هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك ، فلا تسجد لغيره بها ، فتجحد نعمة الله .قال عطاء : مساجدك : أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تذللها لغير خالقها .وفي الصحيح عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أمرت أن أسجد على سبعة أعظم الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين . وقال العباس : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب " .وقيل : المساجد هي الصلوات ; أي لأن السجود لله . قاله الحسن أيضا . فإن جعلت المساجد المواضع فواحدها مسجد بكسر الجيم ، ويقال بالفتح ; حكاه الفراء . وإن جعلتها الأعضاء فواحدها مسجد بفتح الجيم . وقيل : هو جمع مسجد وهو السجود ، يقال : سجدت سجودا ومسجدا ، كما تقول : ضربت في الأرض ضربا ومضربا بالفتح : إذا سرت في ابتغاء الرزق .وقال ابن عباس : المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة المساجد ; لأن كل أحد يسجد إليها . والقول الأول أظهر هذه الأقوال إن شاء الله ، وهو مروي عن ابن عباس - رحمه الله - .الثانية : قوله تعالى : لله إضافة تشريف وتكريم ، ثم خص بالذكر منها البيت العتيق فقال : وطهر بيتي .وقال - عليه السلام - : لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد الحديث خرجه الأئمة . وقد مضى الكلام فيه .وقال - عليه السلام - : صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام .قال ابن العربي : وقد روي من طريق لا بأس بها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، فإن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا ولو صح هذا لكان نصا .قلت : هو صحيح بنقل العدل عن العدل حسب ما بيناه في سورة ( إبراهيم ) .الثالثة : المساجد وإن كانت لله ملكا وتشريفا فإنها قد تنسب إلى غيره تعريفا ; فيقال : مسجد فلان . وفي صحيح الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع ، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق . وتكون هذه الإضافة بحكم المحلية كأنها في قبلتهم ، وقد تكون بتحبيسهم ، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك .الرابعة : مع أن المساجد لله لا يذكر فيها إلا الله فإنه تجوز القسمة فيها للأموال . ويجوز وضع الصدقات فيها على رسم الاشتراك بين المساكين وكل من جاء أكل . ويجوز حبس الغريم فيها ، وربط الأسير والنوم فيها ، وسكنى المريض فيها ، وفتح الباب للجار إليها ، وإنشاد الشعر فيها إذا عري عن الباطل . وقد مضى هذا كله مبينا في سورة ( براءة ) و ( النور ) وغيرهما .الخامسة : قوله تعالى : فلا تدعوا مع الله أحدا هذا توبيخ للمشركين في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام . وقال مجاهد : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله ، فأمر الله نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها . يقول : فلا تشركوا فيها صنما وغيره مما يعبد . وقيل : المعنى أفردوا المساجد لذكر الله ، ولا تتخذوها هزوا ومتجرا ومجلسا ، ولا طرقا ، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيبا .وفي الصحيح : من نشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك ; فإن المساجد لم تبن لهذا وقد مضى في سورة ( النور ) ما فيه كفاية من أحكام المساجد والحمد لله .السادسة : روى الضحاك عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : كان إذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى . وقال : وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا اللهم أنا عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار . فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى ; وقال : " اللهم صب علي الخير صبا ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا ولا تجعل معيشتي كدا ، واجعل لي في الأرض جدا " أي غنى .
وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا۟ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًۭا ﴿19﴾
التفسير:
قوله تعالى : وأنه لما قام عبد الله يدعوه يجوز الفتح ; أي أوحى الله إليه أنه . ويجوز الكسر على الاستئناف . و ( عبد الله ) هنا محمد - صلى الله عليه وسلم - حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن ، حسب ما تقدم أول السورة . يدعوه أي يعبده . وقال ابن جريج : يدعوه أي قام إليهم داعيا إلى الله تعالى . كادوا يكونون عليه لبدا قال الزبير بن العوام : هم الجن حين استمعوا القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - . أي كاد يركب بعضهم بعضا ازدحاما ويسقطون ، حرصا على سماع القرآن .وقيل : كادوا يركبونه حرصا ; قاله الضحاك . ابن عباس : رغبة في سماع الذكر . وروى برد عن مكحول : أن الجن بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفا ، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر . وعن ابن عباس أيضا : إن هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وائتمامهم به في الركوع والسجود .وقيل : المعنى كاد المشركون يركبون بعضهم بعضا ، حردا على النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال الحسن وقتادة وابن زيد : يعني لما قام عبد الله محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه ، وأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره . واختار الطبري أن يكون المعنى : كادت العرب يجتمعون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به .وقال مجاهد : قوله ( لبدا ) جماعات وهو من تلبد الشيء على الشيء أي تجمع ; ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه ، وكل شيء ألصقته إلصاقا شديدا فقد لبدته ، وجمع اللبدة لبد مثل قربة وقرب . ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة وجمعها لبد ; قال زهير :لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلمويقال للجراد الكثير لبد وفيه أربع لغات وقراءات : فتح الباء وكسر اللام ، وهي قراءة العامة . وضم اللام وفتح الباء ، وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وهشام عن أهل الشام ، واحدتها لبدة . وبضم اللام والباء ، وهي قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع وأبي الأشهب العقيلي والجحدري واحدها لبد مثل سقف وسقف ورهن ورهن . وبضم اللام وشد الباء وفتحها ، وهي قراءة الحسن وأبي العالية والأعرج والجحدري أيضا واحدها لابد ; مثل راكع وركع ، وساجد وسجد . وقيل : اللبد بضم اللام وفتح الباء الشيء الدائم ; ومنه قيل لنسر لقمان لبد لدوامه وبقائه ; قال النابغة :أخنى عليها الذي أخنى على لبدالقشيري : وقرئ ( لبدا ) بضم اللام والباء ، وهو جمع لبيد ، وهو الجولق الصغير . وفي الصحاح : وقوله تعالى : أهلكت مالا لبدا أي جما . ويقال أيضا : الناس لبد أي مجتمعون ، واللبد أيضا الذي لا يسافر ولا يبرح منزله . قال الشاعر :من امرئ ذي سماح لا تزال له بزلاء يعيا بها الجثامة اللبدويروى : اللبد . قال أبو عبيد : وهو أشبه .والبزلاء : الرأي الجيد . وفلان نهاض ببزلاء : إذا كان ممن يقوم بالأمور العظام ; قال الشاعر :إني إذا شغلت قوما فروجهم رحب المسالك نهاض ببزلاءولبد : آخر نسور لقمان ، وهو ينصرف ; لأنه ليس بمعدول . وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها ، فلما أهلكوا خير لقمان بين بقاء سبع بعرات سمر ، من أظب عفر ، في جبل وعر ، لا يمسها القطر ; أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر ، فاختار النسور ، وكان آخر نسوره يسمى لبدا ، وقد ذكرته الشعراء ; قال النابغة :أضحت خلاء وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لبدواللبيد : الجوالق الصغير ; يقال : ألبدت القربة جعلتها في لبيد . ولبيد : اسم شاعر من بني عامر .
قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُوا۟ رَبِّى وَلَآ أُشْرِكُ بِهِۦٓ أَحَدًۭا ﴿20﴾
التفسير:
قوله تعالى : قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا أي قال - صلى الله عليه وسلم - : " إنما أدعو ربي " ولا أشرك به أحدا وكذا قرأ أكثر القراء قال على الخبر . وقرأ حمزة وعاصم قل على الأمر . وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا له : إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك ; فنزلت .
قُلْ إِنِّى لَآ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّۭا وَلَا رَشَدًۭا ﴿21﴾
التفسير:
قوله تعالى : قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق لكم خيرا . وقيل : لا أملك لكم ضرا أي كفرا ولا رشدا أي هدى ; أي إنما علي التبليغ . وقيل : الضر : العذاب ، والرشد النعيم . وهو الأول بعينه . وقيل : الضر الموت ، والرشد الحياة .
قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌۭ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلْتَحَدًا ﴿22﴾
التفسير:
قوله تعالى : قل إني لن يجيرني من الله أحد أي لا يدفع عذابه عني أحد إن استحفظته ; وهذا لأنهم قالوا اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك . وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال : انطلقت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط علي خطا ، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه ، فقال سيد لهم يقال له وردان : أنا أزحلهم عنك ; فقال : " إني لن يجيرني من الله أحد " ذكره الماوردي . قال : ويحتمل معنيين : أحدهما : لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد . الثاني : لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحد .ولن أجد من دونه ملتحدا أي ملتجأ ألجأ إليه ; قاله قتادة . وعنه : نصيرا ومولى . السدي : حرزا . الكلبي : مدخلا في الأرض مثل السرب . وقيل : وليا ولا مولى . وقيل : مذهبا ولا مسلكا . حكاه ابن شجرة ، والمعنى واحد ; ومنه قول الشاعر :يا لهف نفسي ولهفي غير مجدية عني وما من قضاء الله ملتحد
إِلَّا بَلَٰغًۭا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَٰلَٰتِهِۦ ۚ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ﴿23﴾
التفسير:
إلا بلاغا من الله ورسالاته فإن فيه الأمان والنجاة ; قاله الحسن .وقال قتادة : إلا بلاغا من الله فذلك الذي أملكه بتوفيق الله ، فأما الكفر والإيمان فلا أملكهما . فعلى هذا يكون مردودا إلى قوله تعالى : قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا أي لا أملك لكم إلا أن أبلغكم .وقيل : هو استثناء منقطع من قوله : لا أملك لكم ضرا ولا رشدا أي إلا أن أبلغكم أي لكن أبلغكم ما أرسلت به ; قاله الفراء .وقال الزجاج : هو منصوب على البدل من قوله : ملتحدا أي ولن أجد من دونه ملتحدا إلا أن أبلغ ما يأتيني من الله ورسالاته ; أي ومن رسالاته التي أمرني بتبليغها . أو إلا أن أبلغ عن الله وأعمل برسالته ، فآخذ نفسي بما آمر به غيري .وقيل هو مصدر ، و ( لا ) بمعنى لم ، و ( إن ) للشرط . والمعنى لن أجد من دونه ملتحدا : أي إن لم أبلغ رسالات ربي بلاغا .قوله تعالى : ومن يعص الله ورسوله في التوحيد والعبادة . فإن له نار جهنم كسرت إن ; لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء وقد تقدم .خالدين فيها نصب على الحال ، وجمع خالدين لأن المعنى لكل من فعل ذلك ، فوحد أولا للفظ " من " ثم جمع للمعنى .وقوله أبدا دليل على أن العصيان هنا هو الشرك . وقيل : هو المعاصي غير الشرك ، ويكون معنى خالدين فيها أبدا إلا أن أعفو أو تلحقهم شفاعة ، ولا محالة إذا خرجوا من الدنيا على الإيمان يلحقهم العفو . وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة ( النساء ) وغيرها .
حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوْا۟ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًۭا وَأَقَلُّ عَدَدًۭا ﴿24﴾
التفسير:
قوله تعالى : حتى إذا رأوا ما يوعدون ، حتى هنا مبتدأ ، أي حتى إذا رأوا ما يوعدون من عذاب الآخرة ، أو ما يوعدون من عذاب الدنيا ، وهو القتل ببدر فسيعلمون حينئذ من أضعف ناصرا أهم أم المؤمنون . وأقل عددا معطوف .
قُلْ إِنْ أَدْرِىٓ أَقَرِيبٌۭ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُۥ رَبِّىٓ أَمَدًا ﴿25﴾
التفسير:
قوله تعالى : قل إن أدري أقريب ما توعدون يعني قيام الساعة . وقيل : عذاب الدنيا ; أي لا أدري ف ( إن ) بمعنى ( ما ) أو ( لا ) ; أي لا يعرف وقت نزول العذاب ووقت قيام الساعة إلا الله ; فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعرفنيه الله . و ( ما ) في قوله : ما يوعدون : يجوز أن يكون مع الفعل مصدرا ، ويجوز أن تكون بمعنى الذي ويقدر حرف العائد .أم يجعل له ربي أمدا أي غاية وأجلا . وقرأ العامة بإسكان الياء من ربي . وقرأ الحرميان وأبو عمرو بالفتح .
عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِۦٓ أَحَدًا ﴿26﴾
التفسير:
قوله تعالى : عالم الغيب ، عالم رفعا نعتا لقوله : ربي . وقيل : أي هو عالم الغيب والغيب ما غاب عن العباد . وقد تقدم بيانه في سورة ( البقرة ) فلا يظهر على غيبه أحدا
إِلَّا مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍۢ فَإِنَّهُۥ يَسْلُكُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦ رَصَدًۭا ﴿27﴾
التفسير:
إلا من ارتضى من رسول فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه ; لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات ; وفي التنزيل : وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم .وقال ابن جبير : ( إلا من ارتضى من رسول ) هو جبريل - عليه السلام - . وفيه بعد ، والأولى أن يكون المعنى : أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي اصطفى للنبوة ، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه : ليكون ذلك دالا على نبوته .قال العلماء - رحمة الله عليهم - : لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم . وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه ، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه .قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على اختلاف أحوالهم ، وتباين رتبهم ، فيهم الملك والسوقة ، والعالم والجاهل ، والغني والفقير ، والكبير والصغير ، مع اختلاف طوالعهم ، وتباين مواليدهم ، ودرجات نجومهم ; فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة ؟ فإن قال المنجم - قبحه الله - : إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه ، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم ، وما يقتضيه طالعه المخصوص به ، فلا فائدة أبدا في عمل المواليد ، ولا دلالة فيها على شقي ولا سعيد ، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم . وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم ، ولقد أحسن الشاعر حيث قال :حكم المنجم أن طالع مولدي يقضي علي بميتة الغرق قل للمنجم صبحة الطوفانهل ولد الجميع بكوكب الغرقوقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما أراد لقاء الخوارج : أتلقاهم والقمر في العقرب ؟ فقال - رضي الله عنه - : فأين قمرهم ؟ وكان ذلك في آخر الشهر . فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها ، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم ، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم . وقال له مسافر بن عوف : يا أمير المؤمنين ! لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار . فقال له علي - رضي الله عنه - : ولم ؟ قال : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت . فقال علي - رضي الله عنه - : ما كان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - منجم ، ولا لنا من بعده - من كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل - فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ندا أو ضدا ، اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير إلا خيرك . ثم قال للمتكلم : نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها . ثم أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ; وإنما المنجم كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر في النار ، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان . ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها ، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في الصحيح لمسلم . ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل سار في الساعة التي أمر بها المنجم ، ما كان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - منجم ولا لنا من بعده ، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان - ثم قال : يا أيها الناس ! توكلوا على الله وثقوا به ; فإنه يكفي ممن سواه .فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا يعني ملائكة يحفظونه عن أن يقرب منه شيطان ; فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة . قال الضحاك : ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك ، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا : هذا شيطان فاحذره . وإن جاءه الملك قالوا : هذا رسول ربك .وقال ابن عباس وابن زيد : رصدا أي حفظة يحفظون النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمامه وورائه من الجن والشياطين . قال قتادة وسعيد بن المسيب : هم أربعة من الملائكة حفظة .وقال الفراء : المراد جبريل كان إذا نزل بالرسالة نزلت معه ملائكة يحفظونه من أن تستمع الجن الوحي ، فيلقوه إلى كهنتهم ، فيسبقوا الرسول .وقال السدي : رصدا أي حفظة يحفظون الوحي ، فما جاء من عند الله قالوا : إنه من عند الله ، وما ألقاه الشيطان قالوا : إنه من الشيطان . و ( رصدا ) نصب على المفعول .وفي الصحاح : والرصد القوم يرصدون كالحرس ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وربما قالوا أرصادا . والراصد للشيء الراقب له ; يقال : رصده يرصده رصدا ورصدا . والترصد الترقب والمرصد موضع الرصد .
لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا۟ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًۢا ﴿28﴾
التفسير:
قوله تعالى : ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا قوله تعالى : ليعلم قال قتادة ومقاتل : أي ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة . وفيه حذف يتعلق به اللام ; أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق .وقيل : ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه ; قاله ابن جبير . قال : ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة عليهم السلام . وقيل : ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم .وقيل : ليعلم الرسول أي رسول كان أن الرسل سواه بلغوا .وقيل : أي ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه .وقال ابن قتيبة : أي ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما نزل عليهم ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم .وقال مجاهد : ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين قد بلغوا رسالات ربهم . وقراءة الجماعة ليعلم بفتح الياء وتأويله ما ذكرناه . وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد ويعقوب بضم الياء أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا .وقال الزجاج : أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته بفتح الياء ; كقوله تعالى : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين المعنى ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيبا .وأحاط بما لديهم أي أحاط علمه بما عندهم ، أي بما عند الرسل وما عند الملائكة . وقال ابن جبير : المعنى : ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط علمه بما لديهم ، فيبلغوا رسالاته .وأحصى كل شيء عددا أي أحاط بعدد كل شيء وعرفه وعلمه فلم يخف عليه منه شيء . و ( عددا ) نصب على الحال ، أي أحصى كل شيء في حال العدد ، وإن شئت على المصدر ، أي أحصى وعد كل شيء عددا ، فيكون مصدر الفعل المحذوف . فهو سبحانه المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيء وقد بينا جميعه في الكتاب الأسنى ، في شرح أسماء الله الحسنى . والحمد لله وحده .
-