بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ سَأَلَ سَآئِلٌۢ بِعَذَابٍۢ وَاقِعٍۢ ﴿1﴾
التفسير:
سورة المعارجوهي مكية باتفاق . وهي أربع وأربعون آيةبسم الله الرحمن الرحيمسأل سائل بعذاب واقعقوله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع قرأ نافع وابن عامر " سال سايل " بغير همزة . الباقون بالهمز . فمن همز فهو من السؤال . والباء يجوز أن تكون زائدة ، ويجوز أن تكون بمعنى عن . والسؤال بمعنى الدعاء ; أي دعا داع بعذاب ; عن ابن عباس وغيره . يقال : دعا على فلان بالويل ، ودعا عليه بالعذاب . ويقال : دعوت زيدا ; أي التمست إحضاره . أي التمس ملتمس عذابا للكافرين ; وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة . وعلى هذا فالباء زائدة ; كقوله تعالى : تنبت بالدهن ، وقوله : وهزي إليك بجذع النخلة فهي تأكيد . أي سأل سائل عذابا واقعا .
لِّلْكَٰفِرِينَ لَيْسَ لَهُۥ دَافِعٌۭ ﴿2﴾
التفسير:
للكافرين أي على الكافرين . وهو النضر بن الحارث حيث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزل سؤاله ، وقتل يوم بدر صبرا هو وعقبة بن أبي معيط ; لم يقتل صبرا غيرهما ; قاله ابن عباس ومجاهد . وقيل : إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري . وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه : " من كنت مولاه فعلي مولاه " ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ثم قال : يا محمد ، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك ، وأن نصلي خمسا فقبلناه منك ، ونزكي أموالنا فقبلناه منك ، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام فقبلناه منك ، وأن نحج فقبلناه منك ، ثم لم ترض بهذا حتى فضلت ابن عمك علينا ! أفهذا شيء منك أم من الله ؟ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله الذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله " . فولى الحارث وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره فقتله ; فنزلت : سأل سائل بعذاب واقع الآية . وقيل : إن السائل هنا أبو جهل وهو القائل لذلك ، قاله الربيع . وقيل : إنه قول جماعة من كفار قريش . وقيل : هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين . وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب وطلب أن يوقعه الله بالكفار ; وهو واقع بهم لا محالة . وامتد الكلام إلى قوله تعالى : فاصبر صبرا جميلا أي لا تستعجل فإنه قريب . وإذا كانت الباء بمعنى عن - وهو قول قتادة - فكأن سائلا سأل عن العذاب بمن يقع أو متى يقع . قال الله تعالى : فاسأل به خبيرا أي سل عنه . وقال علقمة :فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيبأي عن النساء . ويقال : خرجنا نسأل عن فلان وبفلان . فالمعنى سألوا بمن يقع العذاب ولمن يكون فقال الله : للكافرين . قال أبو علي وغيره : وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما . وإذا اقتصر على أحدهما جاز أن يتعدى إليه بحرف جر ; فيكون التقدير : سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب . ومن قرأ بغير همز فله وجهان : أحدهما : أنه لغة في السؤال وهي لغة قريش ; تقول العرب : سال يسال ; مثل نال ينال وخاف يخاف . والثاني : أن يكون من السيلان ; ويؤيده قراءة ابن عباس " سال سيل " . قال عبد الرحمن بن زيد : سال واد من أودية جهنم يقال له : سائل ; وهو قول زيد بن ثابت . قال الثعلبي : والأول أحسن ; كقول الأعشى في تخفيف الهمزة :سالتاني الطلاق إذ رأتاني قل مالي قد جئتماني بنكروفي الصحاح : قال الأخفش : يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان . وقد تخفف همزته فيقال : سال يسال . وقال :ومرهق سال إمتاعا بأصدته لم يستعن وحوامي الموت تغشاهالمرهق : الذي أدرك ليقتل . والأصدة بالضم : قميص صغير يلبس تحت الثوب . المهدوي : من قرأ " سال " جاز أن يكون خفف الهمزة بإبدالها ألفا ، وهو البدل على غير قياس . وجاز أن تكون الألف منقلبة عن واو على لغة من قال : سلت أسال ; كخفت أخاف . النحاس : حكى سيبويه سلت أسال ; مثل خفت أخاف ; بمعنى سألت . وأنشد :سالت هذيل رسول الله فاحشة ضلت هذيل بما سالت ولم تصبويقال : هما يتساولان . المهدوي : وجاز أن تكون مبدلة من ياء ، من سال يسيل . ويكون سايل واديا في جهنم ; فهمزة سايل على القول الأول أصلية ، وعلى الثاني بدل من واو ، وعلى الثالث بدل من ياء . القشيري : وسائل مهموز ; لأنه إن كان من سأل بالهمز فهو مهموز ، وإن كان من غير الهمز كان مهموزا أيضا ; نحو قائل وخائف ; لأن العين اعتل في الفعل واعتل في اسم الفاعل أيضا . ولم يكن الاعتلال بالحذف لخوف الالتباس ، فكان بالقلب إلى الهمزة ، ولك تخفيف الهمزة حتى تكون بين بين . " واقع " أي يقع بالكفار ، بين أنه من الله ذي المعارج .
مِّنَ ٱللَّهِ ذِى ٱلْمَعَارِجِ ﴿3﴾
التفسير:
وقال الحسن : أنزل الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع فقال : لمن هو ؟ فقال : للكافرين ; فاللام في الكافرين متعلقة ب " واقع " . وقال الفراء : التقدير بعذاب للكافرين واقع ; فالواقع من نعت العذاب ، واللام دخلت للعذاب لا للواقع ، أي هذا العذاب للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد . وقيل إن اللام بمعنى على ، والمعنى : واقع على الكافرين . وروي أنها في قراءة أبي كذلك . وقيل : بمعنى عن ; أي ليس له دافع عن الكافرين من الله . أي ذلك العذاب من الله ذي المعارج أي ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم ; قاله ابن عباس وقتادة فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق وقيل ذي العظمة والعلاء وقال مجاهد : هي معارج السماء . وقيل : هي معارج الملائكة ; لأن الملائكة تعرج إلى السماء فوصف نفسه بذلك . وقيل : المعارج الغرف ; أي إنه ذو الغرف ، أي جعل لأوليائه في الجنة غرفا . وقرأ عبد الله " ذي المعاريج " بالياء . يقال : معرج ومعراج ومعارج ومعاريج ; مثل مفتاح ومفاتيح . والمعارج الدرجات ; ومنه : ومعارج عليها يظهرون .
تَعْرُجُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍۢ كَانَ مِقْدَارُهُۥ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍۢ ﴿4﴾
التفسير:
تعرج الملائكة والروح أي تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم . وقرأ ابن مسعود وأصحابه والسلمي والكسائي " يعرج " بالياء على إرادة الجمع ; ولقوله : ذكروا الملائكة ولا تؤنثوهم . وقرأ الباقون بالتاء على إرادة الجماعة . والروح جبريل عليه السلام ; قاله ابن عباس . دليله قوله تعالى : نزل به الروح الأمين . وقيل : هو ملك آخر عظيم الخلقة . وقال أبو صالح : إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس . قال قبيصة بن ذؤيب : إنه روح الميت حين يقبض . " إليه " أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء ; لأنها محل بره وكرامته . وقيل : هو كقول إبراهيم : إني ذاهب إلى ربي . أي إلى الموضع الذي أمرني به . وقيل :" إليه " أي إلى عرشه .في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قال وهب والكلبي ومحمد بن إسحاق : أي عروج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة . وقال وهب أيضا : ما بين أسفل الأرض إلى العرش مسيرة خمسين ألف سنة . وهو قول مجاهد . وجمع بين هذه الآية وبين قوله : في يوم كان مقداره ألف سنة في سورة السجدة ، فقال : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسون ألف سنة . وقوله تعالى في ( الم تنزيل ) : في يوم كان مقداره ألف سنة يعني بذلك نزول الأمر من سماء الدنيا إلى الأرض ، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام . وعن مجاهد أيضا والحكم وعكرمة : هو مدة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنة . لا يدري أحد كم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل . وقيل : المراد يوم القيامة ، أي مقدار الحكم فيه لو تولاه مخلوق خمسون ألف سنة ، قاله عكرمة أيضا والكلبي ومحمد بن كعب . يقول سبحانه وتعالى وأنا أفرغ منه في ساعة . وقال الحسن : هو يوم القيامة ، ولكن يوم القيامة لا نفاد له . فالمراد ذكر موقفهم للحساب فهو في خمسين ألف سنة من سني الدنيا ، ثم حينئذ يستقر أهل الدارين في الدارين . وقال يمان : هو يوم القيامة ، فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة . وقال ابن عباس : هو يوم القيامة ، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ، ثم يدخلون النار للاستقرار .قلت : وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله ، بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . فقلت : ما أطول هذا ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا " . واستدل النحاس على صحة هذا القول بما رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من رجل لم يؤد زكاة مال إلا جعل شجاعا من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس " . قال : فهذا يدل على أنه يوم القيامة . وقال إبراهيم التيمي : ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر . وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين ؛ ولذلك سمى نفسه سريع الحساب وأسرع الحاسبين " . ذكره الماوردي . وقيل : بل يكون الفراغ لنصف يوم ، كقوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا . وهذا على قدر فهم الخلائق ، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن . وكما يرزقهم في ساعة كذا يحاسبهم في لحظة ، قال الله تعالى : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة . وعن ابن عباس أيضا أنه سئل عن هذه الآية وعن قوله تعالى : في يوم كان مقداره ألف سنة فقال : أيام سماها الله عز وجل هو أعلم بها كيف تكون ، وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم . وقيل : معنى ذكر خمسين ألف سنة تمثيل ، وهو تعريف طول مدة القيامة في الموقف ، وما يلقى الناس فيه من الشدائد . والعرب تصف أيام الشدة بالطول ، وأيام الفرح بالقصر ; قال الشاعر :ويوم كظل الرمح قصر طوله دم الزق عنا واصطفاق المزاهروقيل : في الكلام تقديم وتأخير ; والمعنى : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له من الله دافع ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه . وهذا القول هو معنى ما اخترناه ، والموفق الإله .
فَٱصْبِرْ صَبْرًۭا جَمِيلًا ﴿5﴾
التفسير:
قوله تعالى : فاصبر صبرا جميلا أي على أذى قومك . والصبر الجميل : هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله . وقيل : هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى من هو . والمعنى متقارب . وقال ابن زيد : هي منسوخة بآية السيف .
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُۥ بَعِيدًۭا ﴿6﴾
التفسير:
إنهم يرونه بعيدا يريد أهل مكة يرون العذاب بالنار بعيدا ; أي غير كائن .
وَنَرَىٰهُ قَرِيبًۭا ﴿7﴾
التفسير:
ونراه قريبا لأن ما هو آت فهو قريب . وقال الأعمش : يرون البعث بعيدا لأنهم لا يؤمنون به كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة . كما تقول لمن تناظره : هذا بعيد لا يكون ، وقيل : أي يرون هذا اليوم بعيدا ونراه أي نعلمه ; لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود . وهو كقولك : الشافعي يرى في هذه المسألة كذا وكذا .
يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ ﴿8﴾
التفسير:
قوله تعالى : يوم تكون السماء كالمهل العامل في " يوم " " واقع " ; تقديره يقع بهم العذاب يوم . وقيل : " نراه " أو " يبصرونهم " أو يكون بدلا من قريب . والمهل : دردي الزيت وعكره ; في قول ابن عباس وغيره . وقال ابن مسعود : ما أذيب من الرصاص والنحاس والفضة . وقال مجاهد : كالمهل كقيح من دم وصديد . وقد مضى في سورة " الدخان " ، و " الكهف " القول فيه .
وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ﴿9﴾
التفسير:
وتكون الجبال كالعهن أي كالصوف المصبوغ . ولا يقال للصوف عهن إلا أن يكون مصبوغا . وقال الحسن : وتكون الجبال كالعهن وهو الصوف الأحمر ، وهو أضعف الصوف . ومنه قول زهير :كأن فتات العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطمالفتات القطع . والعهن الصوف الأحمر ; واحده عهنة . وقيل : العهن الصوف ذو الألوان ; فشبه الجبال به في تلونها ألوانا . والمعنى أنها تلين بعد الشدة ، وتتفرق بعد الاجتماع . وقيل : أول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا ، ثم عهنا منفوشا ، ثم هباء منبثا .
وَلَا يَسْـَٔلُ حَمِيمٌ حَمِيمًۭا ﴿10﴾
التفسير:
ولا يسأل حميم حميما أي عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه ، قاله قتادة . كما قال تعالى : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه . وقيل : لا يسأل حميم عن حميم ، فحذف الجار ووصل الفعل . وقراءة العامة " يسأل " بفتح الياء . وقرأ شيبة والبزي عن عاصم " ولا يسأل " بالضم على ما لم يسم فاعله ، أي لا يسأل حميم عن حميمه ولا ذو قرابة عن قرابته ، بل كل إنسان يسأل عن عمله . نظيره : كل نفس بما كسبت رهينة .
يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍۭ بِبَنِيهِ ﴿11﴾
التفسير:
قوله تعالى : " يبصرونهم " أي يرونهم . وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس . فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه ; لاشتغالهم بأنفسهم . وقال ابن عباس : يتعارفون ساعة ثم لا يتعارفون بعد تلك الساعة . وفي بعض الأخبار أن أهل القيامة يفرون من المعارف مخافة المظالم . وقال ابن عباس أيضا : " يبصرونهم " يبصر بعضهم بعضا فيتعارفون ثم يفر بعضهم من بعض . فالضمير في " يبصرونهم " على هذا للكفار ، والميم للأقرباء . وقال مجاهد : المعنى يبصر الله المؤمنين الكفار في يوم القيامة ; فالضمير في " يبصرونهم " للمؤمنين ، والهاء والميم للكفار . ابن زيد : المعنى يبصر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا ; فالضمير في " يبصرونهم " للتابعين ، والهاء والميم للمتبوعين . وقيل : إنه يبصر المظلوم ظالمه والمقتول قاتله . وقيل : " يبصرونهم " يرجع إلى الملائكة ; أي يعرفون أحوال الناس فيسوقون كل فريق إلى ما يليق بهم . وتم الكلام عند قوله : " يبصرونهم " . ثم قال :يود المجرم أي يتمنى الكافر .لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه يعني من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه فلا يقدر .
وَصَٰحِبَتِهِۦ وَأَخِيهِ ﴿12﴾
التفسير:
زوجته وعشيرته .
وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِى تُـْٔوِيهِ ﴿13﴾
التفسير:
وفصيلته أي عشيرته .التي تؤويه تنصره ; قاله مجاهد وابن زيد . وقال مالك : أمه التي تربيه . حكاه الماوردي ورواه عنه أشهب . وقال أبو عبيدة : الفصيلة دون القبيلة . وقال ثعلب : هم آباؤه الأدنون . وقال المبرد : الفصيلة القطعة من أعضاء الجسد ، وهي دون القبيلة . وسميت عترة الرجل فصيلته تشبيها بالبعض منه . وقد مضى في سورة " الحجرات " القول في القبيلة وغيرها . وهنا مسألة ، وهي : إذا حبس على فصيلته أو أوصى لها فمن ادعى العموم حمله على العشيرة ، ومن ادعى الخصوص حمله على الآباء ; الأدنى فالأدنى . والأول أكثر في النطق ، والله أعلم . ومعنى : تؤويه تضمه وتؤمنه من خوف إن كان به .
وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًۭا ثُمَّ يُنجِيهِ ﴿14﴾
التفسير:
ومن في الأرض جميعا أي ويود لو فدي بهم لافتدى" ثم ينجيه " أي يخلصه ذلك الفداء . فلا بد من هذا الإضمار ، كقوله : وإنه لفسق أي وإن أكله لفسق . وقيل : يود المجرم يقتضي جوابا بالفاء ; كقوله : ودوا لو تدهن فيدهنون . والجواب في هذه الآية " ثم ينجيه " لأنها من حروف العطف ; أي يود المجرم لو يفتدي فينجيه الافتداء .
كَلَّآ ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ ﴿15﴾
التفسير:
قوله تعالى : " كلا " تقدم القول في " كلا " وأنها تكون بمعنى حقا ، وبمعنى لا . وهي هنا تحتمل الأمرين ; فإذا كانت بمعنى حقا كان تمام الكلام " ينجيه " . وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها ; أي ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء ، ثم قال :إنها لظى أي هي جهنم ; أي تتلظى نيرانها ; كقوله تعالى : فأنذرتكم نارا تلظى واشتقاق لظى من التلظي . والتظاء النار التهابها ، وتلظيها تلهبها . وقيل : كان أصلها " لظظ " أي ما دامت لدوام عذابها ; فقلبت إحدى الظاءين ألفا فبقيت لظى . وقيل : هي الدركة الثانية من طبقات جهنم . وهي اسم مؤنث معرفة فلا ينصرف .
نَزَّاعَةًۭ لِّلشَّوَىٰ ﴿16﴾
التفسير:
نزاعة للشوى قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر عنه والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي " نزاعة " بالرفع . وروى أبو عمرو عن عاصم " نزاعة " بالنصب . فمن رفع فله خمسة أوجه : أحدها أن تجعل " لظى " خبر إن وترفع " نزاعة " بإضمار هي ; فمن هذا الوجه يحسن الوقف على " لظى " . والوجه الثاني أن تكون " لظى " و " نزاعة " خبران لإن . كما تقول : إنه خلق مخاصم . والوجه الثالث أن تكون " نزاعة " بدلا من " لظى " و " لظى " خبر إن . والوجه الرابع أن تكون " لظى " بدلا من اسم إن و " نزاعة " خبر إن . والوجه الخامس : أن يكون الضمير في " إنها " للقصة ، " لظى " مبتدأ و " نزاعة " خبر الابتداء ، والجملة خبر إن ، والمعنى أن القصة والخبر " لظى نزاعة للشوى " ومن نصب " نزاعة " حسن له أن يقف على " لظى " وينصب " نزاعة " على القطع من " لظى " إذ كانت نكرة متصلة بمعرفة . ويجوز نصبها على الحال المؤكدة ; كما قال : وهو الحق مصدقا . ويجوز أن تنصب على معنى أنها تتلظى نزاعة ; أي في حال نزعها للشوى . والعامل فيها ما دل عليه الكلام من معنى التلظي . ويجوز أن يكون حالا ; على أنه حال للمكذبين بخبرها . ويجوز نصبها على القطع ; كما تقول : مررت بزيد العاقل الفاضل . فهذه خمسة أوجه للنصب أيضا . والشوى : جمع شواة وهي جلدة الرأس . قال الأعشى :قالت قتيلة ما له قد جللت شيبا شواتهوقال آخر :لأصبحت هدتك الحوادث هدة لها فشواة الرأس باد قتيرهاالقتير : الشيب . وفي الصحاح : " والشوى : جمع شواة وهي جلدة الرأس " . والشوى : اليدان والرجلان والرأس من الآدميين ، وكل ما ليس مقتلا . يقال : رماه فأشواه إذا لم يصب المقتل . قال الهذلي :فإن من القول التي لا شوى لها إذا زل عن ظهر اللسان انفلاتهايقول : إن من القول كلمة لا تشوي ، ولكن تقتل . قال الأعشى :قالت قتيلة ما له قد جللت شيبا شواتهقال أبو عبيد : أنشدها أبو الخطاب الأخفش أبا عمرو بن العلاء فقال له : " صحفت ! إنما هو سراته ; أي نواحيه ، فسكت أبو الخطاب ثم قال لنا : بل هو صحف ، إنما هو شواته " . وشوى الفرس : قوائمه ; لأنه يقال : عبل الشوى ، ولا يكون هذا للرأس ; لأنهم وصفوا الخيل بإسالة الخدين وعتق الوجه وهو رقته . والشوى : رذال المال . والشوى : هو الشيء الهين اليسير . وقال ثابت البناني والحسن : نزاعة للشوى أي لمكارم وجهه . أبو العالية : لمحاسن وجهه . قتادة : لمكارم خلقته وأطرافه . وقال الضحاك : تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا . وقال الكسائي : هي المفاصل . وقال بعض الأئمة : هي القوائم والجلود . قال امرؤ القيس :سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا له حجبات مشرفات على الفالوقال أبو صالح : أطراف اليدين والرجلين . قال الشاعر :إذا نظرت عرفت الفخر منها وعينيها ولم تعرف شواهايعني أطرافها . وقال الحسن أيضا : الشوى الهام .
تَدْعُوا۟ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ﴿17﴾
التفسير:
تدعو من أدبر وتولى أي تدعو لظى من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان . ودعاؤها أن تقول : إلي يا مشرك ، إلي يا كافر . وقال ابن عباس : تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح : إلي يا كافر ، إلي يا منافق ; ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب . وقال ثعلب : تدعو أي تهلك . تقول العرب : دعاك الله ; أي أهلكك الله . وقال الخليل : إنه ليس كالدعاء " تعالوا " ولكن دعوتها إياهم تمكنها من تعذيبهم . وقيل : الداعي خزنة جهنم ; أضيف دعاؤهم إليها . وقيل هو ضرب مثل ; أي إن مصير من أدبر وتولى إليها ; فكأنها الداعية لهم . ومثله قول الشاعر :ولقد هبطنا الواديين فواديا يدعو الأنيس به العضيض الأبكمالعضيض الأبكم : الذباب . وهو لا يدعو وإنما طنينه نبه عليه فدعا إليه .قلت : القول الأول هو الحقيقة ; حسب ما تقدم بيانه بآي القرآن والأخبار الصحيحة . القشيري : ودعاء لظى بخلق الحياة فيها حين تدعو ، وخوارق العادة غدا كثيرة .
وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰٓ ﴿18﴾
التفسير:
وجمع فأوعى أي جمع المال فجعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى ; فكان جموعا منوعا . قال الحكم : كان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله يقول : وجمع فأوعى .
۞ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿19﴾
التفسير:
قوله تعالى : إن الإنسان خلق هلوعا يعني الكافر ; عن الضحاك . والهلع في اللغة : أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه . وكذلك قال قتادة ومجاهد وغيرهما . وقد هلع ( بالكسر ) يهلع فهو هليع وهلوع ; على التكثير . والمعنى أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي . عكرمة : هو الضجور . الضحاك : هو الذي لا يشبع . والمنوع : هو الذي إذا أصاب المال منع منه حق الله تعالى . وقال ابن كيسان : خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويرضيه ، ويهرب مما يكرهه ويسخطه ، ثم تعبده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره . وقال أبو عبيدة : الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر ، وإذا مسه الضر لم يصبر ; قاله ثعلب . وقال ثعلب أيضا : قد فسر الله الهلوع وهو الذي إذا ناله الشر أظهر شدة الجزع وإذا ناله الخير بخل به ومنعه الناس . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " شر ما أعطي العبد شح هالع وجبن خالع " . والعرب تقول : ناقة هلواعة وهلواع ; إذا كانت سريعة السير خفيفة . قال :صكاء ذعلبة إذا استدبرتها حرج إذا استقبلتها هلواعالذعلب والذعلبة الناقة السريعة .
إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعًۭا ﴿20﴾
التفسير:
وهو الذي إذا ناله الشر أظهر شدة الجزع
وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿21﴾
التفسير:
و " جزوعا " و " منوعا " نعتان لهلوع . على أن ينوي بهما التقديم قبل إذا . وقيل : هو خبر كان مضمرة .
إِلَّا ٱلْمُصَلِّينَ ﴿22﴾
التفسير:
قوله تعالى : إلا المصلين دل على أن ما قبله في الكفار ; فالإنسان اسم جنس بدليل الاستثناء الذي يعقبه كقوله تعالى : إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا . قال النخعي : المراد بالمصلين الذي يؤدون الصلاة المكتوبة . ابن مسعود : الذين يصلونها لوقتها ، فأما تركها فكفر . وقيل : هم الصحابة . وقيل : هم المؤمنون عامة ، فإنهم يغلبون فرط الجزع بثقتهم بربهم ويقينهم .
ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ ﴿23﴾
التفسير:
الذين هم على صلاتهم دائمون أي على مواقيتها . وقال عقبة بن عامر : هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يمينا ولا شمالا . والدائم الساكن ، ومنه : نهي عن البول في الماء الدائم ، أي الساكن . وقال ابن جريج والحسن : هم الذين يكثرون فعل التطوع منها .
وَٱلَّذِينَ فِىٓ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّۭ مَّعْلُومٌۭ ﴿24﴾
التفسير:
والذين في أموالهم حق معلوم يريد الزكاة المفروضة ، قاله قتادة وابن سيرين . وقال مجاهد : سوى الزكاة . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : صلة رحم وحمل كل . والأول أصح ; لأنه وصف الحق بأنه معلوم ، وسوى الزكاة ليس بمعلوم ، إنما هو على قدر الحاجة ، وذلك يقل ويكثر .
لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ ﴿25﴾
التفسير:
للسائل والمحروم تقدم في الذاريات .
وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ ﴿26﴾
التفسير:
والذين يصدقون بيوم الدين أي بيوم الجزاء وهو يوم القيامة . وقد مضى في سورة " الفاتحة " القول فيه .
وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴿27﴾
التفسير:
أي خائفون .
إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍۢ ﴿28﴾
التفسير:
قال ابن عباس : لمن أشرك أو كذب أنبياءه .وقيل : لا يأمنه أحد , بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه .
وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَٰفِظُونَ ﴿29﴾
التفسير:
والذين هم لفروجهم حافظون تقدم القول فيه في سورة " قد أفلح المؤمنون " .
إِلَّا عَلَىٰٓ أَزْوَٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿30﴾
التفسير:
إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين تقدم القول فيه في سورة " قد أفلح المؤمنون " .
فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ ﴿31﴾
التفسير:
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون تقدم القول فيه في سورة " قد أفلح المؤمنون " .
وَٱلَّذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ ﴿32﴾
التفسير:
والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون تقدم أيضا .
وَٱلَّذِينَ هُم بِشَهَٰدَٰتِهِمْ قَآئِمُونَ ﴿33﴾
التفسير:
والذين هم بشهاداتهم قائمون على من كانت عليه من قريب أو بعيد ، يقومون بها عند الحاكم ولا يكتمونها ولا يغيرونها . وقد مضى القول في الشهادة وأحكامها في سورة " البقرة " . وقال ابن عباس : بشهاداتهم أن الله واحد لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله . وقرئ " لأمانتهم " على التوحيد . وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن . فالأمانة اسم جنس ، فيدخل فيها أمانات الدين ، فإن الشرائع أمانات ائتمن الله عليها عباده . ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع ; وقد مضى هذا كله مستوفى في سورة " النساء " . وقرأ عباس الدوري عن أبي عمرو ويعقوب " بشهاداتهم " جمعا . الباقون بشهادتهم على التوحيد ، لأنها تؤدي عن الجمع . والمصدر قد يفرد وإن أضيف إلى جمع ، كقوله تعالى : إن أنكر الأصوات لصوت الحمير . وقال الفراء : ويدل على أنها بشهادتهم توحيدا قوله تعالى : وأقيموا الشهادة لله .
وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿34﴾
التفسير:
والذين هم على صلاتهم يحافظون قال قتادة : على وضوئها وركوعها وسجودها . وقال ابن جريج : التطوع . وقد مضى في سورة " المؤمنون " . فالدوام خلاف المحافظة . فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل ، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها ، ويقيموا أركانها ، ويكملوها بسننها وآدابها ، ويحفظوها من الإحباط باقتراب المأثم . فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات ، والمحافظة إلى أحوالها .
أُو۟لَٰٓئِكَ فِى جَنَّٰتٍۢ مُّكْرَمُونَ ﴿35﴾
التفسير:
أولئك في جنات مكرمون أي أكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات .
فَمَالِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ﴿36﴾
التفسير:
قوله تعالى : فمال الذين كفروا قبلك مهطعين قال الأخفش : مسرعين . قال :بمكة أهلها ولقد أراهم إليه مهطعين إلى السماعوالمعنى : ما بالهم يسرعون إليك ويجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم . وقيل : أي ما بالهم مسرعين في التكذيب لك . وقيل : أي ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع منك ليعيبوك ويستهزئوا بك . وقال عطية : مهطعين : معرضين . الكلبي : ناظرين إليك تعجبا . وقال قتادة : عامدين . والمعنى متقارب ; أي ما بالهم مسرعين عليك ، مادين أعناقهم ، مدمني النظر إليك . وذلك من نظر العدو . وهو منصوب على الحال . نزلت في جمع من المنافقين المستهزئين ، كانوا يحضرونه - عليه السلام - ولا يؤمنون به . و " قبلك " أي نحوك .
عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ ﴿37﴾
التفسير:
عن اليمين وعن الشمال عزين أي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله حلقا حلقا وجماعات . والعزين : جماعات في تفرقة ، قاله أبو عبيدة . ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج على أصحابه فرآهم حلقا فقال : " مالي أراكم عزين . ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها . قالوا : وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال : يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف " خرجه مسلم وغيره . وقال الشاعر :ترانا عنده والليل داج على أبوابه حلقا عزيناأي متفرقين . وقال الراعي :أخليفة الرحمن إن عشيرتي أمسى سراتهم إليك عزيناأي متفرقين . وقال آخر :كأن الجماجم من وقعها خناطيل يهوين شتى عزيناأي متفرقين . وقال آخر :فلما أن أتين على أضاخ ضرحن حصاه أشتاتا عزيناوقال الكميت :ونحن وجندل باغ تركنا كتائب جندل شتى عزيناوقال عنترة :وقرن قد تركت لذي ولي عليه الطير كالعصب العزينوواحد عزين عزة ، جمع بالواو والنون ليكون ذلك عوضا مما حذف منها . وأصلها عزهة ، فاعتلت كما اعتلت سنة فيمن جعل أصلها سنهة . وقيل : أصلها عزوة ، من عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره . فكل واحد من الجماعات مضافة إلى الأخرى ، والمحذوف منها الواو . وفي الصحاح : " والعزة الفرقة من الناس ، والهاء عوض من الياء ، والجمع عزى - على فعل - وعزون وعزون أيضا بالضم ، ولم يقولوا عزات كما قالوا : ثبات " . قال الأصمعي : يقال في الدار عزون ، أي أصناف من الناس . و عن اليمين وعن الشمال متعلق بمهطعين ويجوز أن يتعلق بعزين على حد قولك : أخذته عن زيد .
أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِئٍۢ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍۢ ﴿38﴾
التفسير:
أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم قال المفسرون : كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فيكذبونه ويكذبون عليه ، ويستهزئون بأصحابه ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم ، ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه ; فنزلت : " أيطمع . . . " الآية . وقيل : كان المستهزئون خمسة أرهط . وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف والأعرج " أن يدخل " بفتح الياء وضم الخاء مسمى الفاعل . ورواه المفضل عن عاصم . الباقون " أن يدخل " على الفعل المجهول .
كَلَّآ ۖ إِنَّا خَلَقْنَٰهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴿39﴾
التفسير:
" كلا " لا يدخلونها .ثم ابتدأ فقال : إنا خلقناهم مما يعلمون أي إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ; كما خلق سائر جنسهم . فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة ، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى . وقيل : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم . فقال : إنا خلقناهم مما يعلمون من القذر ، فلا يليق بهم هذا التكبر . وقال قتادة في هذه الآية : إنما خلقت يا ابن آدم من قذر فاتق الله . وروي أن مطرف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز فقال له : يا عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها الله ؟ فقال له : أتعرفني ؟ قال : نعم ، أولك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة . فمضى المهلب وترك مشيته . نظم الكلام محمود الوراق فقال :عجبت من معجب بصورته وكان في الأصل نطفة مذرهوهو غدا بعد حسن صورته يصير في اللحد جيفة قذرهوهو على تيهه ونخوته ما بين ثوبيه يحمل العذرهوقال آخر :هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة وهو بخمس من الأوساخ مضروبأنف يسيل وأذن ريحها سهك والعين مرمصة والثغر ملهوبيا ابن التراب ومأكول التراب غدا قصر فإنك مأكول ومشروبوقيل : معناه من أجل ما يعلمون ; وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب . كقول الشاعر وهو الأعشى :أأزمعت من آل ليلى ابتكارا وشطت على ذي هوى أن تزاراأي من أجل ليلى .
فَلَآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ ﴿40﴾
التفسير:
قوله تعالى : " فلا أقسم " أي أقسم . و " لا " صلة .برب المشارق والمغارب هي مشارق الشمس ومغاربها . وقد مضى الكلام فيها . وقرأ أبو حيوة وابن محيصن وحميد " برب المشرق والمغرب " على التوحيد .
عَلَىٰٓ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًۭا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴿41﴾
التفسير:
إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم يقول : نقدر على إهلاكهم والذهاب بهم والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال .وما نحن بمسبوقين أي لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده .
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا۟ وَيَلْعَبُوا۟ حَتَّىٰ يُلَٰقُوا۟ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِى يُوعَدُونَ ﴿42﴾
التفسير:
قوله تعالى : فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدونأي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم ; على جهة الوعيد . واشتغل أنت بما أمرت به ولا يعظمن عليك شركهم ; فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا . وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد " حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون " . وهذه الآية منسوخة بآية السيف .
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلْأَجْدَاثِ سِرَاعًۭا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍۢ يُوفِضُونَ ﴿43﴾
التفسير:
قوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون يوم بدل من " يومهم " الذي قبله ، وقراءة العامة " يخرجون " بفتح الياء وضم الراء على أنه مسمى الفاعل . وقرأ السلمي والمغيرة والأعشى عن عاصم " يخرجون " بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول . والأجداث القبور ; واحدها جدث . وقد مضى في سورة " يس " ." سراعا " حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي ; وهو نصب على الحال كأنهم إلى نصب يوفضون قراءة العامة بفتح النون وجزم الصاد . وقرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد . وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهما بضم النون وإسكان الصاد . والنصب والنصب لغتان مثل الضعف والضعف . الجوهري : والنصب ما نصب فعبد من دون الله ، وكذلك النصب بالضم ; وقد يحرك . قال الأعشى :وذا النصب المنصوب لا تنسكنه لعافية والله ربك فاعبداأراد " فاعبدن " فوقف بالألف ; كما تقول : رأيت زيدا . والجمع الأنصاب . وقوله : " وذا النصب " بمعنى إياك وذا النصب . والنصب الشر والبلاء ; ومنه قوله تعالى : أني مسني الشيطان بنصب وعذاب . وقال الأخفش والفراء : النصب جمع النصب مثل رهن ورهن ، والأنصاب جمع نصب ; فهو جمع الجمع . وقيل : النصب والأنصاب واحد . وقيل : النصب جمع نصاب ، هو حجر أو صنم يذبح عليه ; ومنه قوله تعالى : وما ذبح على النصب . وقد قيل : نصب ونصب ونصب بمعنى واحد ; كما قيل عمر وعمر وعمر . ذكره النحاس . قال ابن عباس : إلى نصب إلى غاية ، وهي التي تنصب إليها بصرك . وقال الكلبي : إلى شيء منصوب ; علم أو راية . وقال الحسن : كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أولهم على آخرهم ." يوفضون " يسرعون ، والإيفاض الإسراع . قال الشاعر :فوارس ذبيان تحت الحدي د كالجن يوفضن من عبقرعبقر : موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن . قال لبيد :كهول وشبان كجنة عبقروقال الليث : وفضت الإبل تفض وفضا ; وأوفضها صاحبها . فالإيفاض متعد ، والذي في الآية لازم . يقال : وفض وأوفض واستوفض بمعنى أسرع .
خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌۭ ۚ ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِى كَانُوا۟ يُوعَدُونَ ﴿44﴾
التفسير:
قوله تعالى : خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدونقوله تعالى : خاشعة أبصارهم أي ذليلة خاضعة ، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله .ترهقهم ذلة أي يغشاهم الهوان . قال قتادة : هو سواد الوجوه . والرهق : الغشيان ; ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام . رهقه ( بالكسر ) يرهقه رهقا أي غشيه ; ومنه قوله تعالى : ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة .ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون أي يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب . وأخرج الخبر بلفظ الماضي لأن ما وعد الله به يكون لا محالة
-