بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ ﴿1﴾
التفسير:
سورة ( عم )مكية وتسمى سورة ( النبأ )وهي أربعون أو إحدى وأربعون آيةبسم الله الرحمن الرحيمعم يتساءلونقوله تعالى : عم يتساءلون ؟ عم لفظ استفهام ; ولذلك سقطت منها ألف ( ما ) ، ليتميز الخبر عن الاستفهام . وكذلك ( فيم ، ومم ) إذا استفهمت . والمعنى عن أي شيء يسأل بعضهم بعضا وقال الزجاج : أصل عم عن ما فأدغمت النون في الميم ، لأنها تشاركها في الغنة . والضمير في يتساءلون لقريش . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت عم يتساءلون ؟ وقيل : عم بمعنى : فيم يتشدد المشركون ويختصمون .
عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ ﴿2﴾
التفسير:
قوله تعالى : عن النبأ العظيم أي يتساءلون عن النبأ العظيم فعن ليس تتعلق ب ( يتساءلون ) الذي في التلاوة ; لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون عن النبأ العظيم كقولك : كم مالك أثلاثون أم أربعون ؟ فوجب لما ذكرناه من امتناع تعلقه ب " يتساءلون " الذي في التلاوة ، وإنما يتعلق ب " يتساءلون " آخر مضمر . وحسن ذلك لتقدم يتساءلون ; قاله المهدوي . وذكر بعض أهل العلم أن الاستفهام في قوله : ( عن ) مكرر إلا أنه مضمر ، كأنه قال عم يتساءلون أعن النبأ العظيم ؟ فعلى هذا يكون متصلا بالآية الأولى . والنبأ العظيم أي الخبر الكبير .
ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ﴿3﴾
التفسير:
الذي هم فيه مختلفون أي يخالف فيه بعضهم بعضا ، فيصدق واحد ويكذب آخر ; فروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هو القرآن ; دليله قوله : قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون فالقرآن نبأ وخبر وقصص ، وهو نبأ عظيم الشأن . وروى سعيد عن قتادة قال : هو البعث بعد الموت صار الناس فيه رجلين : مصدق ومكذب . وقيل : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : وذلك أن اليهود سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء كثيرة ، فأخبره الله - جل ثناؤه - باختلافهم .
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿4﴾
التفسير:
ثم هددهم فقال : كلا سيعلمون أي سيعلمون عاقبة القرآن ، أو سيعلمون البعث : أحق هو أم باطل . و ( كلا ) رد عليهم في إنكارهم البعث أو تكذيبهم القرآن ، فيوقف عليها . ويجوز أن يكون بمعنى حقا أو ( ألا ) فيبدأ بها . والأظهر أن سؤالهم إنما كان عن البعث ; قال بعض علمائنا : والذي يدل عليه قوله - عز وجل - : إن يوم الفصل كان ميقاتا يدل على أنهم كانوا يتساءلون عن البعث .
ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴿5﴾
التفسير:
ثم كلا سيعلمون أي حقا ليعلمن صدق ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت . وقال الضحاك : كلا سيعلمون يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم . ثم كلا سيعلمون يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم . وقيل : بالعكس أيضا . وقال الحسن : هو وعيد بعد وعيد . وقراءة العامة فيهما بالياء على الخبر ; لقوله تعالى : يتساءلون وقوله : هم فيه مختلفون . وقرأ الحسن وأبو العالية ومالك بن دينار بالتاء فيهما .
أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلْأَرْضَ مِهَٰدًۭا ﴿6﴾
التفسير:
دلهم على قدرته على البعث ; أي قدرتنا على إيجاد هذه الأمور أعظم من قدرتنا على الإعادة .والمهاد : الوطاء والفراش .وقد قال تعالى : " الذي جعل لكم الأرض فراشا " [ البقرة : 22 ] وقرئ " مهدا " .ومعناه أنها لهم كالمهد للصبي , وهو ما يمهد له فينوم عليه
وَٱلْجِبَالَ أَوْتَادًۭا ﴿7﴾
التفسير:
أي لتسكن ولا تتكفأ ولا تميل بأهلها .
وَخَلَقْنَٰكُمْ أَزْوَٰجًۭا ﴿8﴾
التفسير:
أي أصنافا : ذكرا وأنثى .وقيل : ألوانا .وقيل : يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن , وطويل وقصير ; لتختلف الأحوال فيقع الاعتبار , فيشكر الفاضل ويصبر المفضول .
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًۭا ﴿9﴾
التفسير:
وجعلنا نومكم سباتا" جعلنا " معناه صيرنا ; ولذلك تعدت إلى مفعولين . " سباتا " المفعول الثاني , أي راحة لأبدانكم , ومنه يوم السبت أي يوم الراحة ; أي قيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم , فلا تعملوا فيه شيئا . وأنكر ابن الأنباري هذا وقال : لا يقال للراحة سبات . وقيل : أصله التمدد ; يقال : سبتت المرأة شعرها : إذا حلته وأرسلته , فالسبات كالمد , ورجل مسبوت الخلق : أي ممدود . وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد , فسميت الراحة سبتا . وقيل : أصله القطع ; يقال : سبت شعره سبتا : حلقه ; وكأنه إذا نام انقطع عن الناس وعن الاشتغال , فالسبات يشبه الموت , إلا أنه لم تفارقه الروح . ويقال : سير سبت : أي سهل لين ; قال الشاعر : ومطوية الأقراب أما نهارها فسبت وأما ليلها فذميل
وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ لِبَاسًۭا ﴿10﴾
التفسير:
أي تلبسكم ظلمته وتغشاكم ; قاله الطبري .وقال ابن جبير والسدي : أي سكنا لكم .
وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشًۭا ﴿11﴾
التفسير:
فيه إضمار , أي وقت معاش , أي متصرفا لطلب المعاش وهو كل ما يعاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك " فمعاشا " على هذا اسم زمان , ليكون الثاني هو الأول .ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف .
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًۭا شِدَادًۭا ﴿12﴾
التفسير:
أي سبع سموات محكمات ; أي محكمة الخلق وثيقة البنيان .
وَجَعَلْنَا سِرَاجًۭا وَهَّاجًۭا ﴿13﴾
التفسير:
أي وقادا وهي الشمس .وجعل هنا بمعنى خلق ; لأنها تعدت لمفعول واحد والوهاج الذي له وهج ; يقال : وهج يهج وهجا ووهجا ووهجانا .ويقال للجوهر إذا تلألأ توهج .وقال ابن عباس : وهاجا منيرا متلألئا .
وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَٰتِ مَآءًۭ ثَجَّاجًۭا ﴿14﴾
التفسير:
وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا قال مجاهد وقتادة : والمعصرات الرياح . وقاله ابن عباس : كأنها تعصر السحاب . وعن ابن عباس أيضا : أنها السحاب . وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك : أي السحائب التي تنعصر بالماء ولما تمطر بعد ، كالمرأة المعصر التي قد دنا حيضها ولم تحض ، قال أبو النجم :تمشي الهوينى مائلا خمارها قد أعصرت أو قد دنا إعصارهاوقال آخر :فكان مجني دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصروقال آخر :وذي أشر كالأقحوان يزينه ذهاب الصبا والمعصرات الروائحفالرياح تسمى معصرات ; يقال : أعصرت الريح تعصر إعصارا : إذا أثارت العجاج ، وهي الإعصار ، والسحب أيضا تسمى المعصرات لأنها تمطر . وقال قتادة أيضا : المعصرات السماء ، النحاس : هذه الأقوال صحاح ; يقال للرياح التي تأتي بالمطر معصرات ، والرياح تلقح السحاب ، فيكون المطر ، والمطر ينزل من الريح على هذا . ويجوز أن تكون الأقوال واحدة ، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح المعصراتماء ثجاجا وأصح الأقوال أن المعصرات السحاب . كذا المعروف أن الغيث منها ، ولو كان ( بالمعصرات ) لكان الريح أولى . وفي الصحاح : والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر . وأعصر القوم أي أمطروا ; ومنه قرأ بعضهم وفيه يعصرون والمعصر : الجارية أول ما أدركت وحاضت ; يقال : قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته ; قال الراجز [ منصور بن مرثد الأسدي ] :جارية بسفوان دارها تمشي الهوينى ساقطا خمارهاقد أعصرت أو قد دنا إعصارهاوالجمع : معاصر ، ويقال : هي التي قاربت الحيض ; لأن الإعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام . سمعته من أبي الغوث الأعرابي . قال غيره : والمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر ; يقال أجن الزرع فهو مجن : أي صار إلى أن يجن ، وكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر . وقال المبرد : يقال سحاب معصر أي ممسك للماء ، ويعتصر منه شيء بعد شيء ، ومنه العصر بالتحريك للملجأ الذي يلجأ إليه ، والعصرة بالضم أيضا الملجأ . وقد مضى هذا المعنى في سورة ( يوسف ) والحمد لله . وقال أبو زبيد :صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجودومنه المعصر للجارية التي قد قربت من البلوغ يقال لها معصر ; لأنها تحبس في البيت ، فيكون البيت لها عصرا . وفي قراءة ابن عباس وعكرمة ( وأنزلنا بالمعصرات ) . والذي في المصاحف من المعصرات قال أبي بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان : من المعصرات أي من السماوات . ماء ثجاجا صبابا متتابعا ; عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . يقال : ثججت دمه فأنا أثجه ثجا ، وقد ثج الدم يثج ثجوجا ، وكذلك الماء ، فهو لازم ومتعد . والثجاج في الآية المنصب . وقال الزجاج : أي الصباب ، وهو متعد كأنه يثج نفسه أي يصب . وقال عبيد بن الأبرص :فثج أعلاه ثم ارتج أسفله وضاق ذرعا بحمل الماء منصاحوفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الحج المبرور فقال : العج والثج فالعج : رفع الصوت بالتلبية ، والثج : إراقة الدماء وذبح الهدايا . وقال ابن زيد : ثجاجا كثيرا . والمعنى واحد .
لِّنُخْرِجَ بِهِۦ حَبًّۭا وَنَبَاتًۭا ﴿15﴾
التفسير:
" لنخرج به " أي بذلك الماء " حبا " كالحنطة والشعير وغير ذلك " ونباتا " من الأب , وهو ما تأكله الدواب من الحشيش .
وَجَنَّٰتٍ أَلْفَافًا ﴿16﴾
التفسير:
قوله تعالى : وجنات أي بساتين ألفافا أي ملتفة بعضها ببعض لتشعب أغصانها ، ولا واحد له كالأوزاع والأخياف . وقيل : واحد الألفاف لف بالكسر ولف بالضم . ذكره الكسائي ، قال :جنة لف وعيش مغدق وندامى كلهم بيض زهروعنه أيضا وأبي عبيدة : لفيف كشريف وأشراف . وقيل : هو جمع الجمع . حكاه الكسائي . يقال : جنة لفاء ونبت لف والجمع لف بضم اللام مثل حمر ، ثم يجمع اللف ألفافا . الزمخشري : ولو قيل جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان وجيها . ويقال : شجرة لفاء وشجر لف وامرأة لفاء : أي غليظة الساق مجتمعة اللحم . وقيل : التقدير : ونخرج به جنات ألفافا ، فحذف لدلالة الكلام عليه . ثم هذا الالتفاف والانضمام معناه أن الأشجار في البساتين تكون متقاربة ، فالأغصان من كل شجرة متقاربة لقوتها .
إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَٰتًۭا ﴿17﴾
التفسير:
أي وقتا ومجمعا وميعادا للأولين والآخرين , لما وعد الله من الجزاء والثواب .وسمي يوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه .
يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًۭا ﴿18﴾
التفسير:
يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاقوله تعالى : يوم ينفخ في الصور أي للبعث فتأتون أي إلى موضع العرض . أفواجا أي أمما ، كل أمة مع إمامهم . وقيل : زمرا وجماعات . الواحد : فوج . ونصب يوما بدلا من اليوم الأول . وروي من حديث معاذ بن جبل قلت : يا رسول الله ! أرأيت قول الله تعالى : يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا معاذ بن جبل لقد سألت عن أمر عظيم " ثم أرسل عينيه باكيا ، ثم قال : " يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين ، وبدل صورهم ، فمنهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون : أرجلهم أعلاهم ، ووجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمي يترددون ، وبعضهم صم بكم لا يعقلون ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم ، فهي مدلاة على صدورهم ، يسيل القيح من أفواههم لعابا ، يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من النار ، وبعضهم أشد نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من القطران لاصقة بجلودهم ; فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس - يعني النمام - وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت والحرام والمكس . وأما المنكسون رؤوسهم ووجوههم ، فأكلة الربا ، والعمي : من يجور في الحكم ، والصم البكم : الذين يعجبون بأعمالهم . والذين يمضغون ألسنتهم : فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم . والمقطعة أيديهم وأرجلهم : فالذين يؤذون الجيران . والمصلبون على جذوع النار : فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ، ويمنعون حق الله [ والفقراء ] من أموالهم . والذين يلبسون الجلابيب : فأهل الكبر والفخر والخيلاء " .
وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَٰبًۭا ﴿19﴾
التفسير:
قوله تعالى : وفتحت السماء فكانت أبوابا أي لنزول الملائكة ; كما قال تعالى : ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا . وقيل : تقطعت ، فكانت قطعا كالأبواب فانتصاب الأبواب على هذا التأويل بحذف الكاف . وقيل : التقدير فكانت ذات أبواب ; لأنها تصير كلها أبوابا . وقيل : أبوابها طرقها . وقيل : تنحل وتتناثر ، حتى تصير فيها أبواب . وقيل : إن لكل عبد بابين في السماء : بابا لعمله ، وبابا لرزقه ، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب . وفي حديث الإسراء : " ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا " .
وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴿20﴾
التفسير:
وسيرت الجبال فكانت سرابا أي لا شيء كما أن السراب كذلك : يظنه الرائي ماء وليس بماء . وقيل : سيرت نسفت من أصولها . وقيل : أزيلت عن مواضعها .
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًۭا ﴿21﴾
التفسير:
قوله تعالى : إن جهنم كانت مرصادا مفعال من الرصد والرصد : كل شيء كان أمامك . قال الحسن : إن على النار رصدا ، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه ، فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجئ بجواز حبس . وعن سفيان - رضي الله عنه - قال : عليها ثلاث قناطر . وقيل ( مرصادا ) ذات أرصاد على النسب ; أي ترصد من يمر بها .وقال مقاتل : محبسا . وقيل : طريقا وممرا ، فلا سبيل إلى الجنة حتى يقطع جهنم . وفي الصحاح : والمرصاد : الطريق . وذكر القشيري : أن المرصاد المكان الذي يرصد فيه الواحد العدو ، نحو المضمار : الموضع الذي تضمر فيه الخيل . أي هي معدة لهم ; فالمرصاد بمعنى المحل ; فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم . وذكر الماوردي عن أبي سنان أنها بمعنى راصدة ، تجازيهم بأفعالهم . وفي الصحاح : الراصد الشيء : الراقب له ; تقول : رصده يرصده رصدا ورصدا ، والترصد : الترقب . والمرصد : موضع الرصد . الأصمعي : رصدته أرصده : ترقبته ، وأرصدته : أعددت له . والكسائي : مثله .قلت : فجهنم معدة مترصدة ، متفعل من الرصد وهو الترقب ; أي هي متطلعة لمن يأتي . والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمغيار ، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار .
لِّلطَّٰغِينَ مَـَٔابًۭا ﴿22﴾
التفسير:
بدل من قوله : " مرصادا " والمآب : المرجع , أي مرجعا يرجعون إليها ; يقال : آب يئوب أوبة : إذا رجع .وقال قتادة : مأوى ومنزلا .والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر , أو في دنياه بالظلم .
لَّٰبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًۭا ﴿23﴾
التفسير:
لابثين فيها أحقابا أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب ، وهي لا تنقطع ، فكلما مضى حقب جاء حقب . والحقب بضمتين : الدهر والأحقاب الدهور . والحقبة بالكسر : السنة ; والجمع حقب ; قال متمم بن نويرة التميمي :وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكالطول اجتماع لم نبت ليلة معاوالحقب بالضم والسكون : ثمانون سنة . وقيل : أكثر من ذلك وأقل ، على ما يأتي ، والجمع : أحقاب . والمعنى في الآية ; لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها ; فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه ; إذ في الكلام ذكر الآخرة ، وهو كما يقال : أيام الآخرة ; أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية ، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب . ونحوه وذكر الأحقاب لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم ، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها ، وهي كناية عن التأبيد ، أي يمكثون فيها أبدا . وقيل : ذكر الأحقاب دون الأيام ; لأن الأحقاب أهول في القلوب ، وأدل على الخلود . والمعنى متقارب ; وهذا الخلود في حق المشركين . ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب .وقيل : الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق ، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب ; ولهذا قال : لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا . و ( لابثين ) اسم فاعل من لبث ، ويقويه أن المصدر منه اللبث بالإسكان ، كالشرب . وقرأ حمزة والكسائي ( لبثين ) بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ، وهما لغتان ; يقال : رجل لابث ولبث ، مثل طمع وطامع ، وفره وفاره . ويقال : هو لبث بمكان كذا : أي قد صار اللبث شأنه ، فشبه بما هو خلقة في الإنسان نحو : حذر وفرق ; لأن باب فعل إنما هو لما يكون خلقة في الشيء في الأغلب ، وليس كذلك اسم الفاعل من لبث .والحقب : ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن محيصن وأبي هريرة ، والسنة ثلاثمائة يوم وستون يوما ، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا ، قاله ابن عباس . وروى ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو هريرة : والسنة ثلاثمائة يوم وستون يوما كل يوم مثل أيام الدنيا . وعن ابن عمر أيضا : الحقب : أربعون سنة . السدي : سبعون سنة . وقيل : إنه ألف شهر . رواه أبو أمامة مرفوعا . بشير بن كعب : ثلاثمائة سنة . الحسن : الأحقاب لا يدري أحد كم هي ، ولكن ذكروا أنها مائة حقب ، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة ، اليوم منها كألف سنة مما تعدون . وعن أبي أمامة أيضا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الحقب الواحد ثلاثون ألف سنة ذكره المهدوي . والأول الماوردي . وقال قطرب : هو الدهر الطويل غير المحدود . وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا ، الحقب بضع وثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة مما تعدون ; فلا يتكلن أحدكم على أن يخرج من النار . ذكره الثعلبي . القرظي : الأحقاب : ثلاثة وأربعون حقبا كل حقب سبعون خريفا ، كل خريف سبعمائة سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة .قلت : هذه أقوال متعارضة ، والتحديد في الآية للخلود ، يحتاج إلى توقيف يقطع العذر ، وليس ذلك بثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإنما المعنى - والله أعلم - ما ذكرناه أولا ; أي لابثين فيها أزمانا ودهورا ، كلما مضى زمن يعقبه زمن ، ودهر يعقبه دهر ، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع . وقال ابن كيسان : معنى لابثين فيها أحقابا لا غاية لها انتهاء ، فكأنه قال أبدا . وقال ابن زيد ومقاتل : إنها منسوخة بقوله تعالى : فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا يعني أن العدد قد انقطع والخلود قد حصل .قلت : وهذا بعيد ; لأنه خبر ، وقد قال تعالى : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط على ما تقدم . هذا في حق الكفار ، فأما العصاة الموحدون فصحيح ويكون النسخ بمعنى التخصيص . والله أعلم . وقيل : المعنى لابثين فيها أحقابا أي في الأرض ; إذ قد تقدم ذكرها ويكون الضمير في لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا لجهنم . وقيل : واحد الأحقاب حقب وحقبة ; قال :فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها فأنت بما أحدثته بالمجربوقال الكميت :مر لها بعد حقبة حقب
لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًۭا وَلَا شَرَابًا ﴿24﴾
التفسير:
قوله تعالى : لا يذوقون فيها أي في الأحقاب بردا ولا شرابا البرد : النوم في قول أبي عبيدة وغيره ; قال الشاعر :ولو شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا برداوقاله مجاهد والسدي والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي ; وأنشدوا قول الكندي :بردت مراشفها علي فصدني عنها وعن تقبيلها البرديعني النوم . والعرب تقول : منع البرد البرد ، يعني : أذهب البرد النوم .قلت : وقد جاء الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل في الجنة نوم . فقال : " لا ; النوم أخو الموت ، والجنة لا موت فيها " فكذلك النار ; وقد قال تعالى : لا يقضى عليهم فيموتوا وقال ابن عباس : البرد : برد الشراب . وعنه أيضا : البرد النوم : والشراب الماء . وقال الزجاج : أي لا يذوقون فيها برد ريح ، ولا ظل ، ولا نوم . فجعل البرد برد كل شيء له راحة ، وهذا برد ينفعهم ، فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به ، فلا ينفعهم ، فلهم منه من العذاب ما الله أعلم به . وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بردا : أي روحا وراحة ; قال الشاعر [ حميد بن ثور ] :فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء أوقات العشي تذوقلا يذوقون فيها بردا ولا شرابا جملة في موضع الحال من الطاغين ، أو نعت للأحقاب ; فالأحقاب ظرف زمان ، والعامل فيه لابثين أو ( لبثين ) على تعدية فعل .
إِلَّا حَمِيمًۭا وَغَسَّاقًۭا ﴿25﴾
التفسير:
إلا حميما وغساقا استثناء منقطع في قول من جعل البرد النوم ، ومن جعله من البرودة كان بدلا منه . والحميم : الماء الحار ; قاله أبو عبيدة . وقال ابن زيد : الحميم : دموع أعينهم ، تجمع في حياض ثم يسقونه . قال النحاس : أصل الحميم الماء الحار ، ومنه اشتق الحمام ، ومنه الحمى ، ومنه وظل من يحموم : إنما يراد به النهاية في الحر . والغساق : صديد أهل النار وقيحهم . وقيل الزمهرير . وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين ، وقد مضى في ( ص ) القول فيه .
جَزَآءًۭ وِفَاقًا ﴿26﴾
التفسير:
جزاء وفاقا أي موافقا لأعمالهم . عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ; فالوفاق بمعنى الموافقة كالقتال بمعنى المقاتلة . و ( جزاء ) نصب على المصدر ، أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم ; قاله الفراء والأخفش . وقال الفراء أيضا : هو جمع الوفق ، والوفق واللفق واحد . وقال مقاتل . وافق العذاب الذنب ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار . وقال الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة ، فأتاهم الله بما يسوؤهم .
إِنَّهُمْ كَانُوا۟ لَا يَرْجُونَ حِسَابًۭا ﴿27﴾
التفسير:
" إنهم كانوا لا يرجون " أي لا يخافون " حسابا " أي محاسبة على أعمالهم .وقيل : معناه لا يرجون ثواب حساب .الزجاج : أي إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم .
وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔايَٰتِنَا كِذَّابًۭا ﴿28﴾
التفسير:
وكذبوا بآياتنا كذابا أي بما جاءت به الأنبياء . وقيل : بما أنزلنا من الكتب . وقراءة العامة كذابا بتشديد الذال ، وكسر الكاف ، على كذب ، أي كذبوا تكذيبا كبيرا . قال الفراء : هي لغة يمانية فسيحة ; يقولون : كذبت به كذابا ، وخرقت القميص خراقا ; وكل فعل في وزن ( فعل ) فمصدره فعال مشدد في لغتهم ; وأنشد بعض الكلابيين :لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي وعن حوج قضاؤها من شفائناوقرأ علي - رضي الله عنه - ( كذابا ) بالتخفيف وهو مصدر أيضا . وقال أبو علي : التخفيف والتشديد جميعا : مصدر المكاذبة ، كقول الأعشى :فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابهأبو الفتح : جاءا جميعا مصدر كذب وكذب جميعا . الزمخشري : ( كذابا ) بالتخفيف مصدر كذب ; بدليل قوله :فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابهوهو مثل قوله : أنبتكم من الأرض نباتا يعني وكذبوا بآياتنا أفكذبوا كذابا . أو تنصبه ب " كذبوا " . لأنه يتضمن معنى كذبوا ; لأن كل مكذب بالحق كاذب ; لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين ، وكان المسلمون عندهم كاذبين ، فبينهم مكاذبة . وقرأ ابن عمر ( كذابا ) بضم الكاف والتشديد ، جمع كاذب ; قاله أبو حاتم . ونصبه على الحال الزمخشري . وقد يكون الكذاب : بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، يقال : رجل كذاب ، كقولك حسان وبخال ، فيجعله صفة لمصدر كذبوا أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه . وفي الصحاح : وقوله تعالى : وكذبوا بآياتنا كذابا وهو أحد مصادر المشدد ; لأن مصدره قد يجيء على ( تفعيل ) مثل التكليم وعلى ( فعال ) كذاب وعلى ( تفعلة ) مثل توصية ، وعلى ( مفعل ) ; ومزقناهم كل ممزق .
وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَٰهُ كِتَٰبًۭا ﴿29﴾
التفسير:
وكل شيء أحصيناه كتابا ، ( كل ) نصب بإضمار فعل يدل عليه أحصيناه أي وأحصينا كل شيء أحصيناه . وقرأ أبو السمال وكل شيء بالرفع على الابتداء . ( كتابا ) نصب على المصدر ; لأن معنى أحصينا : كتبنا ، أي كتبناه كتابا . ثم قيل : أراد به العلم ، فإن ما كتب كان أبعد من النسيان . وقيل : أي كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة . وقيل : أراد ما كتب على العباد من أعمالهم . فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكلين بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة ; دليله قوله تعالى : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين .
فَذُوقُوا۟ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ﴿30﴾
التفسير:
قال أبو برزة : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن ؟ فقال : قوله تعالى : " فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا " أي " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها " [ النساء : 56 ] و " كلما خبت زدناهم سعيرا " [ الإسراء : 97 ] .
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ﴿31﴾
التفسير:
ذكر جزاء من اتقى مخالفة أمر الله " مفازا " موضع فوز ونجاة وخلاص مما فيه أهل النار .ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها : مفازة , تفاؤلا بالخلاص منها .
حَدَآئِقَ وَأَعْنَٰبًۭا ﴿32﴾
التفسير:
هذا تفسير الفوز .وقيل : " إن للمتقين مفازا " إن للمتقين حدائق ; جمع حديقة , وهي البستان المحوط عليه ; يقال أحدق به : أي أحاط .والأعناب : جمع عنب , أي كروم أعناب , فحذف .
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًۭا ﴿33﴾
التفسير:
كواعب : جمع كاعب وهي الناهد ; يقال : كعبت الجارية تكعب كعوبا , وكعبت تكعب تكعيبا , ونهدت تنهد نهودا .وقال الضحاك : ككواعب العذارى ; ومنه قول قيس بن عاصم : وكم من حصان قد حوينا كريمة ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصروالأتراب : الأقران في السن .وقد مضى في سورة " الواقعة " الواحد : ترب .
وَكَأْسًۭا دِهَاقًۭا ﴿34﴾
التفسير:
وكأسا دهاقا قال الحسن وقتادة وابن زيد وابن عباس : مترعة مملوءة ; يقال : أدهقت الكأس : أي ملأتها ، وكأس دهاق أي ممتلئة ; قال :ألا فاسقني صرفا سقاني الساقي من مائها بكأسك الدهاقوقال خداش بن زهير :أتانا عامر يبغي قرانا فأترعنا له كأسا دهاقاوقال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وابن عباس أيضا : متتابعة ، يتبع بعضها بعضا ; ومنه ادهقت الحجارة ادهاقا ، وهو شدة تلازمها ودخول بعضها في بعض ; فالمتتابع كالمتداخل . وعن عكرمة أيضا وزيد بن أسلم : صافية ; قال الشاعر :لأنت إلى الفؤاد أحب قربا من الصادي إلى كأس دهاقوهو جمع دهق ، وهو خشبتان يغمز بهما الساق ، والمراد بالكأس الخمر ، فالتقدير : خمرا ذات دهاق ، أي عصرت وصفيت ; قاله القشيري . وفي الصحاح : وأدهقت الماء : أي أفرغته إفراغا شديدا : قال أبو عمرو : والدهق - بالتحريك : ضرب من العذاب . وهو بالفارسية أشكنجه . المبرد : والمدهوق : المعذب بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه . ابن الأعرابي : دهقت الشيء كسرته وقطعته ، وكذلك دهدقته : وأنشد لحجر بن خالد :ندهدق بضع اللحم للباع والندى وبعضهم تغلي بذم مناقعهودهمقته بزيادة الميم : مثله . وقال الأصمعي : الدهمقة : لين الطعام وطيبه ورقته ، وكذلك كل شيء لين ; ومنه حديث عمر : لو شئت أن يدهمق لي لفعلت ، ولكن الله عاب قوما فقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها .
لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًۭا وَلَا كِذَّٰبًۭا ﴿35﴾
التفسير:
قوله تعالى : لا يسمعون فيها أي في الجنة لغوا ولا كذابا اللغو : الباطل ، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح ; ومنه الحديث : إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت وذلك أن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم ، ولم يتكلموا بلغو ; بخلاف أهل الدنيا . ولا كذابا تقدم ، أي لا يكذب بعضهم بعضا ، ولا يسمعون كذبا . وقرأ الكسائي ( كذابا ) بالتخفيف من كذبت كذابا أي لا يتكاذبون في الجنة . وقيل : هما مصدران للتكذيب ، وإنما خففها هاهنا لأنها ليست مقيدة بفعل يصير مصدرا له ، وشدد قوله : وكذبوا بآياتنا كذابا لأن كذبوا يقيد المصدر بالكذاب .
جَزَآءًۭ مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَابًۭا ﴿36﴾
التفسير:
جزاء من ربك نصب على المصدر . لأن المعنى جزاهم بما تقدم ذكره ، جزاءه وكذلك عطاء لأن معنى أعطاهم وجزاهم واحد . أي أعطاهم عطاء . حسابا أي كثيرا ، قاله قتادة ; يقال : أحسبت فلانا : أي كثرت له العطاء حتى قاله حسبي . قال :ونقفي وليد الحي إن كان جائعا ونحسبه إن كان ليس بجائعوقال القتبي : ونرى أصل هذا أن يعطيه حتى يقول حسبي . وقال الزجاج : حسابا أي ما يكفيهم . وقاله الأخفش . يقال : أحسبني كذا : أي كفاني . وقال الكلبي : حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا . مجاهد : حسابا لما عملوا ، فالحساب بمعنى العد . أي بقدر ما وجب له في وعد الرب ، فإنه وعد للحسنة عشرا ، ووعد لقوم بسبعمائة ضعف ، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار ; كما قال تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب . وقرأ أبو هاشم عطاء حسابا بفتح الحاء ، وتشديد السين ، على وزن فعال أي كفافا ; قال الأصمعي : تقول العرب : حسبت الرجل بالتشديد : إذا أكرمته ; وأنشد قول الشاعر :إذا أتاه ضيفه يحسبه وقرأ ابن عباس ( حسانا ) بالنون .
رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَٰنِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًۭا ﴿37﴾
التفسير:
قوله تعالى : رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن قرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب ، والمفضل عن عاصم : ( رب ) بالرفع على الاستئناف ، الرحمن خبره . أو بمعنى : هو رب السماوات ، ويكون الرحمن مبتدأ ثانيا . وقرأابن عامر ويعقوب وابن محيصن كلاهما بالخفض ، نعتا لقوله : جزاء من ربك أي جزاء من ربك رب السماوات ( الرحمن ) . وقرأ ابن عباس وعاصم وحمزة والكسائي : رب السماوات خفضا على النعت ، الرحمن رفعا على الابتداء ، أي هو الرحمن . واختاره أبو عبيد وقال : هذا أعدلها ; خفض رب لقربه من قوله : من ربك فيكون نعتا له ، ورفع الرحمن لبعده منه ، على الاستئناف ، وخبره لا يملكون منه خطابا أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه . وقال الكسائي : لا يملكون منه خطابا بالشفاعة إلا بإذنه . وقيل : الخطاب : الكلام ; أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه ; دليله : لا تكلم نفس إلا بإذنه . وقيل : أراد الكفار لا يملكون منه خطابا ، فأما المؤمنون فيشفعون .قلت : بعد أن يؤذن لهم ; لقوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقوله تعالى : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا .
يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ صَفًّۭا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًۭا ﴿38﴾
التفسير:
قوله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا " يوم " نصب على الظرف ; أي يوم لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح . واختلف في الروح على أقوال ثمانية :الأول : أنه ملك من الملائكة . قال ابن عباس : ما خلق الله مخلوقا بعد العرش أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا ، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم . ونحو منه عن ابن مسعود ; قال : الروح ملك أعظم من السماوات السبع ، ومن الأرضين السبع ، ومن الجبال . وهو حيال السماء الرابعة ، يسبح الله كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة ; يخلق الله من كل تسبيحة ملكا ، فيجيء يوم القيامة وحده صفا ، وسائر الملائكة صفا .الثاني : أنه جبريل - عليه السلام - . قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير . وعن ابن عباس : إن عن يمين العرش نهرا من نور ، مثل السماوات السبع ، والأرضين السبع ، والبحار السبع ، يدخل جبريل كل يوم فيه سحرا فيغتسل ، فيزداد نورا على نوره ، وجمالا على جماله ، وعظما على عظمه ، ثم ينتفض فيخلق الله من كل قطرة تقع من ريشه سبعين ألف ملك ، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا البيت المعمور ، والكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليهما إلى يوم القيامة . وقال وهب : إن جبريل - عليه السلام - واقف بين يدي الله تعالى ترعد فرائصه ; يخلق الله تعالى من كل رعدة مائة ألف ملك ، فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسة رؤوسهم ، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا : لا إله إلا أنت ; وهو قوله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن في الكلام وقال صوابا يعني قول : لا إله إلا أنت .والثالث : روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الروح في هذه الآية جند من جنود الله تعالى ، ليسوا ملائكة ، لهم رؤوس وأيد وأرجل ، يأكلون الطعام . ثم قرأ يوم يقوم الروح والملائكة صفا فإن هؤلاء جند ، وهؤلاء جند . وهذا قول أبي صالح ومجاهد . وعلى هذا هم خلق على صورة بني آدم ، كالناس وليسوا بناس .الرابع : أنهم أشراف الملائكة ; قاله مقاتل بن حيان .الخامس : أنهم حفظة على الملائكة ; قاله ابن أبي نجيح .السادس : أنهم بنو آدم ، قاله الحسن وقتادة . فالمعنى ذوو الروح . وقال العوفي والقرظي : هذا مما كان يكتمه ابن عباس ; قال : الروح : خلق من خلق الله على صور بني آدم ، وما نزل ملك من السماء إلا ومعه واحد من الروح .السابع : أرواح بني آدم تقوم صفا ، فتقوم الملائكة صفا ، وذلك بين النفختين ، قبل أن ترد إلى الأجساد ; قاله عطية .الثامن : أنه القرآن ; قال زيد بن أسلم ، وقرأ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا . و ( صفا ) : مصدر أي يقومون صفوفا . والمصدر ينبئ عن الواحد والجمع ، كالعدل ، والصوم . ويقال ليوم العيد : يوم الصف . وقال في موضع آخر : وجاء ربك والملك صفا صفا هذا يدل على الصفوف ، وهذا حين العرض والحساب . قال معناه القتبي وغيره . وقيل : يقوم الروح صفا ، والملائكة صفا ، فهم صفان . وقيل : يقوم الكل صفا واحدا .لا يتكلمون أي لا يشفعون إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة وقال صوابا يعني حقا ; قاله الضحاك ومجاهد . وقال أبو صالح : لا إله إلا الله . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : يشفعون لمن قال لا إله إلا الله . وأصل الصواب . السداد من القول والفعل ، وهو من أصاب يصيب إصابة ; كالجواب من أجاب يجيب إجابة . وقيل : لا يتكلمون يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا ، لا يتكلمون هيبة وإجلالا إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا ، وأنهم يوحدون الله تعالى ويسبحونه . وقال الحسن : إن الروح يقول يوم القيامة : لا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة ، ولا النار إلا بالعمل . وهو معنى قوله تعالى : وقال صوابا .
ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ ۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ مَـَٔابًا ﴿39﴾
التفسير:
قوله تعالى : ذلك اليوم الحق أي الكائن الواقع فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا أي مرجعا بالعمل الصالح ; كأنه إذا عمل خيرا رده إلى الله - عز وجل - ، وإذا عمل شرا عده منه . وينظر إلى هذا المعنى قوله - عليه السلام - : والخير كله بيديك ، والشر ليس إليك . وقال قتادة : مآبا : سبيلا .
إِنَّآ أَنذَرْنَٰكُمْ عَذَابًۭا قَرِيبًۭا يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يَٰلَيْتَنِى كُنتُ تُرَٰبًۢا ﴿40﴾
التفسير:
قوله تعالى : إنا أنذرناكم عذابا قريبا يخاطب كفار قريش ومشركي العرب ; لأنهم قالوا : لا نبعث . والعذاب عذاب الآخرة ، وكل ما هو آت فهو قريب ، وقد قال تعالى : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها قال معناه الكلبي وغيره . وقال قتادة : عقوبة الدنيا ; لأنها أقرب العذابين . قال مقاتل : هي قتل قريش ببدر . والأظهر أنه عذاب الآخرة ، وهو الموت والقيامة ; لأن من مات فقد قامت قيامته ، فإن كان من أهل الجنة رأى مقعده من الجنة ، وإن كان من أهل النار رأى الخزي والهوان ; ولهذا قال تعالى : يوم ينظر المرء ما قدمت يداهيوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ بين وقت ذلك العذاب ; أي أنذرناكم عذابا قريبا في ذلك اليوم ، وهو يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، أي يراه ] ، وقيل : ينظر إلى ما قدمت فحذف إلى . والمرء هاهنا المؤمن في قول الحسن ; أي يجد لنفسه عملا ، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا ، فيتمنى أن يكون ترابا . ولما قال : ويقول الكافر علم أنه أراد بالمرء المؤمن . وقيل : المرء هاهنا : أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط .ويقول الكافر أبو جهل . وقيل : هو عام في كل أحد وإنسان يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسب . وقال مقاتل : نزلت قوله : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي : ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا : في أخيه الأسود بن عبد الأسد .وقال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الكافر : هاهنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب ، وافتخر بأنه خلق من نار ، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة ، والرحمة ، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب ، تمنى أنه يكون بمكان آدم ، فيقول : ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا قال : ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر . وقيل : أي يقول إبليس يا ليتني خلقت من التراب ولم أقل أنا خير من آدم . وعن ابن عمر : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم ، وحشر الدواب والبهائم والوحوش ، ثم يوضع القصاص بين البهائم ، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء بنطحتها ، فإذا فرغ من القصاص بينها قيل لها : كوني ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا . ونحوه عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - . وقد ذكرناه في كتاب ( التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ) ، مجودا والحمد لله . ذكر أبو جعفر النحاس : حدثنا أحمد بن محمد بن نافع ، قال حدثنا سلمة بن شبيب ، قال حدثنا عبد الرازق ، قال حدثنا معمر ، قال أخبرني جعفر بن برقان الجزري ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة ، قال : إن الله تعالى يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان ، ثم يقال للبهائم والطير كوني ترابا ، فعند ذلك ( يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ) . وقال قوم : يا ليتني كنت ترابا : أي لم أبعث ، كما قال : يا ليتني لم أوت كتابيه . وقال أبو الزناد : إذا قضي بين الناس ، وأمر بأهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن : عودوا ترابا ، فيعودون ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم يا ليتني كنت ترابا .وقال ليث بن أبي سليم : مؤمنو الجن يعودون ترابا . وقال عمر بن عبد العزيز والزهري والكلبي ومجاهد : مؤمنو الجنة حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها . وهذا أصح ، وقد مضى في سورة ( الرحمن ) بيان هذا ، وأنهم مكلفون : يثابون ويعاقبون ، فهم كبني آدم ، والله أعلم بالصواب .
-