موقع شبكة الاسلام
23

سورة سُورَةُ المُؤۡمِنُونَ

مكية - 118 آيات

تفسير: الجامع لأحكام القرآن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴿1﴾

التفسير:

قوله تعالى : قد أفلح المؤمنون روى البيهقي من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لما خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها تكلمي فقالت : قد أفلح المؤمنون . وروى النسائي ، عن عبد الله بن السائب قال : حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة ، فخلع نعليه ، فوضعهما عن يساره ، فافتتح سورة المؤمنين ، فلما جاء ذكر موسى أو عيسى عليهما السلام أخذته سعلة فركع . خرجه مسلم بمعناه . وفي الترمذي ، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدوي النحل ؛ وأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه وقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا وأرضنا وارض عنا - ثم قال : أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة - ثم قرأ - قد أفلح المؤمنون حتى ختم عشر آيات ؛ صححه ابن العربي . وقال النحاس : معنى من أقامهن من أقام عليهن ولم يخالف ما فيهن ؛ كما تقول : فلان يقوم بعمله . ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الوضوء والحج فدخل معهن . وقرأ طلحة بن مصرف قد أفلح المؤمنون بضم الألف على الفعل المجهول ؛ أي أبقوا في الثواب والخير . وقد مضى في أول ( البقرة ) معنى الفلاح لغة ومعنى ، والحمد لله وحده .

ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ ﴿2﴾

التفسير:

قوله تعالى : ( خاشعون ) روى المعتمر ، عن خالد ، عن محمد بن سيرين قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى السماء في الصلاة ؛ فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية الذين هم في صلاتهم خاشعون . فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر حيث يسجد . وفي رواية هشيم : كان المسلمون يلتفتون في الصلاة وينظرون حتى أنزل الله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ؛ فأقبلوا على صلاتهم وجعلوا ينظرون أمامهم . وقد تقدم ما للعلماء في حكم المصلي إلى حيث ينظر في ( البقرة ) عند قول فول وجهك شطر المسجد الحرام . وتقدم أيضا معنى الخشوع لغة ومعنى في البقرة أيضا عند قوله تعالى : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين . والخشوع محله القلب ؛ فإذا خشع خشعت الجوارح كلها لخشوعه ؛ إذ هو ملكها ، حسبما بيناه أول البقرة . وكان الرجل من العلماء إذا أقام الصلاة وقام إليها يهاب الرحمن أن يمد بصره إلى شيء وأن يحدث نفسه بشيء من الدنيا . وقال عطاء : هو ألا يعبث بشيء من جسده في الصلاة . وأبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه . وقال أبو ذر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - . إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يحركن الحصى . رواه الترمذي . وقال الشاعر :ألا في الصلاة الخير والفضل أجمع لأن بها الآراب لله تخضع وأول فرض من شريعة دينناوآخر ما يبقى إذا الدين يرفع فمن قام للتكبير لاقته رحمةوكان كعبد باب مولاه يقرع وصار لرب العرش حين صلاتهنجيا فيا طوباه لو كان يخشعوروى أبو عمر أن الجوني قال : قيل لعائشة ما كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت : أتقرءون سورة المؤمنين ؟ قيل نعم . قالت : اقرءوا ؛ فقرئ عليها قد أفلح المؤمنون حتى بلغ ( يحافظون ) . وروى النسائي ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلحظ في صلاته يمينا وشمالا ، ولا يلوي عنقه خلف ظهره . وقال كعب بن مالك في حديثه الطويل : ثم أصلي قريبا منه - يعني من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني . . . الحديث ؛ ولم يأمره بإعادة .اختلف الناس في الخشوع ، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين . والصحيح الأول ، ومحله القلب ، وهو أول علم يرفع من الناس ؛ قاله عبادة بن الصامت ، رواه الترمذي من حديث جبير بن نفير ، عن أبي الدرداء ، وقال : هذا حديث حسن غريب . وقد خرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا ، عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة . قال أبو عيسى : ومعاوية بن صالح ثقة عند أهل الحديث ، ولا نعلم أحدا تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان .قلت : معاوية بن صالح أبو عمرو ويقال أبو عمر الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس ، سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال : صالح الحديث ، يكتب حديثه ولا يحتج به . واختلف فيه قول يحيى بن معين ، ووثقه عبد الرحمن بن مهدي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو زرعة الرازي ، واحتج به مسلم في صحيحه .

وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿3﴾

التفسير:

وتقدم في ( البقرة ) معنى اللغو والزكاة فلا معنى للإعادة . وقال الضحاك : إن اللغو هنا الشرك . وقال الحسن : إنه المعاصي كلها . فهذا قول جامع يدخل فيه قول من قال : هو الشرك ؛ وقول من قال هو الغناء ؛ كما روى مالك بن أنس ، عن محمد بن المنكدر ، على ما يأتي في ( لقمان ) بيانه .

وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ ﴿4﴾

التفسير:

ومعنى " فاعلون " أي مؤدون ; وهي فصيحة , وقد جاءت في كلام العرب .قال أمية ابن أبي الصلت : المطعمون الطعام في السنة الأز مة والفاعلون للزكوات

وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَٰفِظُونَ ﴿5﴾

التفسير:

قوله تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون قال ابن العربي : من غريب القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء ، كسائر ألفاظ القرآن التي هي محتملة لهم فإنها عامة فيهم ، إلا قول والذين هم لفروجهم حافظون فإنما خاطب بها الرجال خاصة دون الزوجات ،

إِلَّا عَلَىٰٓ أَزْوَٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿6﴾

التفسير:

إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخر كآيات الإحصان عموما وخصوصا وغير ذلك من الأدلة . قلت : وعلى هذا التأويل في الآية فلا يحل لامرأة أن يطأها من تملكه إجماعا من العلماء ؛ لأنها غير داخلة في الآية ، ولكنها لو أعتقته بعد ملكها له جاز له أن يتزوجها كما يجوز لغيره عند الجمهور . وروي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، والشعبي ، والنخعي أنها لو أعتقته حين ملكته كانا على نكاحهما . قال أبو عمر : ولا يقل هذا أحد من فقهاء الأمصار ؛ لأن تملكها عندهم يبطل النكاح بينهما ، وليس ذلك بطلاق وإنما هو فسخ للنكاح ؛ وأنها لو أعتقته بعد ملكها له لم يراجعها إلا بنكاح جديد ولو كانت في عدة منه .الخامسة : قال محمد بن الحكم : سمعت حرملة بن عبد العزيز قال : سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة ، فتلا هذه الآية والذين هم لفروجهم حافظون - إلى قوله - العادون . وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة ؛ وفيه يقول الشاعر :إذا حللت بواد لا أنيس به فاجلد عميرة لا داء ولا حرجويسميه أهل العراق الاستمناء ، وهو استفعال من المني . وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه ، ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة ؛ أصله الفصد والحجامة . وعامة العلماء على تحريمه . وقال بعض العلماء : إنه كالفاعل بنفسه ، وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة ، ويا ليتها لم تقل ؛ ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها . فإن قيل : إنها خير من نكاح الأمة ؛ قلنا : نكاح الأمة ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء خير من هذا ، وإن كان قد قال به قائل أيضا ، ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل عار بالرجل الدنيء فكيف بالرجل الكبير .قوله تعالى : إلا على أزواجهم قال الفراء : أي من أزواجهم اللاتي أحل الله لهم لا يجاوزون . أو ما ملكت أيمانهم في موضع خفض معطوفة على أزواجهم و ما مصدرية . وهذا يقتضي تحريم الزنا وما قلناه من الاستنماء ونكاح المتعة ؛ لأن المتمتع بها لا تجري مجرى الزوجات ، لا ترث ولا تورث ، ولا يلحق به ولدها ، ولا يخرج من نكاحها بطلاق يستأنف لها ، وإنما يخرج بانقضاء المدة التي عقدت عليها وصارت كالمستأجرة . ابن العربي : إن قلنا إن نكاح المتعة جائز فهي زوجة إلى أجل ينطلق عليها اسم الزوجية . وإن قلنا بالحق الذي أجمعت عليه الأمة من تحريم نكاح المتعة لما كانت زوجة فلم تدخل في الآية .قلت : وفائدة هذا الخلاف هل يجب الحد ولا يلحق الولد كالزنى الصريح أو يدفع الحد للشبهة ويلحق الولد ؟ قولان لأصحابنا . وقد كان للمتعة في التحليل والتحريم أحوال ؛ فمن ذلك أنها كانت مباحة ثم حرمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن خيبر ، ثم حللها في غزاة الفتح ؛ ثم حرمها بعد ؛ قاله ابن خويز منداد من أصحابنا وغيره ، وإليه أشار ابن العربي . وقد مضى في ( النساء ) القول فيها مستوفى .

فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ ﴿7﴾

التفسير:

قوله تعالى : فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون فسمى من نكح ما لا يحل عاديا وأوجب عليه الحد لعدوانه ، واللائط عاد قرآنا ولغة ، بدليل قوله تعالى : بل أنتم قوم عادون وكما تقدم في ( الأعراف ) ؛ فوجب أن يقام الحد عليهم ، وهذا ظاهر لا غبار عليه .قلت : فيه نظر ، ما لم يكن جاهلا أو متأولا ، وإن كان الإجماع منعقدا على أن قوله تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين خص به الرجال دون النساء ؛ فقد روى معمر ، عن قتادة قال : تسررت امرأة غلامها ؛ فذكر ذلك لعمر فسألها : ما حملك على ذلك ؟ قالت : كنت أراه يحل لي بملك يميني ، كما يحل للرجل المرأة بملك اليمين ؛ فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : تأولت كتاب الله - عز وجل - على غير تأويله ، لا رجم عليها . فقال عمر : لا جرم ! والله لا أحلك لحر بعده أبدا . عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها ، وأمر العبد ألا يقربها .وعن أبي بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول : أنا حضرت عمر بن عبد العزيز جاءته امرأة بغلام لها وضيء فقالت : إني استسررته فمنعني بنو عمي عن ذلك ، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها ؛ فانه عني بني عمي ؛ فقال عمر : أتزوجت قبله ؟ قالت : نعم ؛ قال : أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة ؛ ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها . ( ووراء ) بمعنى سوى ، وهو مفعول ب ( ابتغى ) أي من طلب سوى الأزواج والولائد المملوكة له . وقال الزجاج : أي فمن ابتغى ما بعد ذلك ؛ فمفعول الابتغاء محذوف ، و ( وراء ) ظرف . و ( ذلك ) يشار به إلى كل مذكور مؤنثا كان أو مذكرا . فأولئك هم العادون أي المجاوزون الحد ؛ من عدا أي جاوز الحد وجازه .

وَٱلَّذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ ﴿8﴾

التفسير:

قوله تعالى : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون قرأ الجمهور ( لأماناتهم ) بالجمع . وابن كثير بالإفراد . والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا وفعلا . وهذا يعم معاشرة الناس ، والمواعيد ، وغير ذلك ؛ وغاية ذلك حفظه والقيام به . والأمانة أعم من العهد ، وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد .

وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿9﴾

التفسير:

التاسعة : قرأ الجمهور ( صلواتهم ) وحمزة ، والكسائي ( صلاتهم ) بالإفراد ؛ وهذا الإفراد اسم جنس فهو في معنى الجميع . والمحافظة على الصلاة إقامتها والمبادرة إليها أوائل أوقاتها ، وإتمام ركوعها وسجودها . وقد تقدم في ( البقرة ) مستوفى .

أُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْوَٰرِثُونَ ﴿10﴾

التفسير:

ثم قال : أولئك هم الوارثون أي من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهم الوارثون ؛ أي يرثون منازل أهل النار من الجنة . وفي الخبر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في النار ، فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار ، ويجعل الكفار في منازلهم في النار . خرجه ابن ماجه بمعناه . عن أبي هريرة أيضا قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ، ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى : أولئك هم الوارثون . إسناده صحيح . ويحتمل أن يسمى الحصول على الجنة وراثة من حيث حصولها دون غيرهم ، فهو اسم مستعار على الوجهين .

ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ ﴿11﴾

التفسير:

والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها . خرجه الترمذي من حديث الربيع بنت النضر أم حارثة ، وقال : حديث حسن صحيح . وفي حديث مسلم فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة . قال أبو حاتم محمد بن حبان : قوله - صلى الله عليه وسلم - : فإنه أوسط الجنة يريد أن الفردوس في وسط الجنان في العرض وهو أعلى الجنة ، يريد في الارتفاع . وهذا كله يصحح قول أبي هريرة : إن الفردوس جبل الجنة التي تتفجر منه أنهار الجنة . واللفظة فيما قال مجاهد : رومية عربت . وقيل : هي فارسية عربت . وقيل : حبشية ؛ وإن ثبت ذلك فهو وفاق بين اللغات . وقال الضحاك : هو عربي وهو الكرم ؛ والعرب تقول للكروم فراديس . هم فيها خالدون فأنث على معنى الجنة .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٍۢ مِّن طِينٍۢ ﴿12﴾

التفسير:

قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طينقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان الإنسان هنا آدم - عليه الصلاة والسلام - ؛ قاله قتادة ، وغيره ، لأنه استل من الطين . ويجيء الضمير في قوله : ثم جعلناه عائدا على ابن آدم ، وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر ؛ فإن المعنى لا يصلح إلا له . نظير ذلك حتى توارت بالحجاب وقيل : المراد بالسلالة ابن آدم ؛ قاله ابن عباس ، وغيره . والسلالة على هذا صفوة الماء ، يعني المني . والسلالة فعالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء ؛ يقال : سللت الشعر من العجين ، والسيف من الغمد فانسل ؛ ومنه قوله [ لامرئ القيس ] :فسلي ثيابي من ثيابك تنسلفالنطفة سلالة ، والولد سليل وسلالة ؛ عنى به الماء يسل من الظهر سلا . قال الشاعر [ حسان بن ثابت ] :فجاءت به عضب الأديم غضنفرا سلالة فرج كان غير حصينوقال آخر [ هند بنت النعمان ] :وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تجللها بغلقوله : من طين أي أن الأصل آدم وهو من طين .قلت : أي من طين خالص ؛ فأما ولده فهو من طين ومني ، حسبما بيناه في أول سورة الأنعام . وقال الكلبي : السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك ؛ فالذي يخرج هو السلالة .

ثُمَّ جَعَلْنَٰهُ نُطْفَةًۭ فِى قَرَارٍۢ مَّكِينٍۢ ﴿13﴾

التفسير:

وهو القليل من الماء , وقد يقع على الكثير منه ; ومنه الحديث ( حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جورا ) .أراد بحر المشرق وبحر المغرب .والنطف : القطر .نطف ينطف وينطف .وليلة نطوفة دائمة القطر.

ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةًۭ فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةًۭ فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَٰمًۭا فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَٰمَ لَحْمًۭا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَٰلِقِينَ ﴿14﴾

التفسير:

قوله تعالى : ( نطفة ) قد مضى القول في النطفة والعلقة والمضغة وما في ذلك من الأحكام في أول الحج ، والحمد لله على ذلك .الثالثة : قوله تعالى : ثم أنشأناه خلقا آخر اختلف الناس في الخلق الآخر ؛ فقال ابن عباس ، والشعبي ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن زيد : هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا . وعن ابن عباس : خروج إلى الدنيا . وقال قتادة عن فرقة : نبات شعره . الضحاك : خروج الأسنان ونبات الشعر . مجاهد : كمال شبابه ؛ وروي عن ابن عمر : والصحيح أنه عام في هذا وفي غيره من النطق ، والإدراك ، وحسن المحاولة ، وتحصيل المعقولات إلى أن يموت .الرابعة : قوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله : خلقا آخر قال فتبارك الله أحسن الخالقين ؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هكذا أنزلت . وفي مسند الطيالسي : ونزلت ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين الآية ؛ فلما نزلت قلت أنا : تبارك الله أحسن الخالقين ؛ فنزلت فتبارك الله أحسن الخالقين . ويروى أن قائل ذلك معاذ بن جبل . وروي أن قائل ذلك عبد الله بن أبي سرح ، وبهذا السبب ارتد وقال : آتي بمثل ما يأتي محمد ؛ وفيه نزل ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله على ما تقدم بيانه في ( الأنعام ) . وقوله تعالى : فتبارك تفاعل من البركة . أحسن الخالقين أتقن الصانعين . يقال لمن صنع شيئا خلقه ؛ ومنه قول الشاعر [ زهير بن أبي سلمى ] :ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفريوذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى . وقال ابن جريج : إنما قال أحسن الخالقين لأنه تعالى قد أذن لعيسى - عليه السلام - أن يخلق ؛ واضطرب بعضهم في ذلك . ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع ؛ وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم .[ الخامسة ] : من هذه الآية قال ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا : الله أعلم ؛ فقال عمر : ما تقول يا ابن عباس ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الله تعالى خلق السماوات سبعا والأرضين سبعا ، وخلق ابن آدم من سبع ، وجعل رزقه في سبع ، فأراها في ليلة سبع وعشرين . فقال عمر - رضي الله عنه - : أعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شئون رأسه . وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أبي شيبة . فأراد ابن عباس خلق ابن آدم من سبع بهذه الآية ، وبقوله : وجعل رزقه في سبع قوله : فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا الآية .السبع منها لابن آدم ، والأب للأنعام . والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء ؛ هذا قول . وقيل : القضب البقول لأنها تقضب ؛ فهي رزق ابن آدم . وقيل : القضب والأب للأنعام ، والست الباقية لابن آدم ، والسابعة هي للأنعام ؛ إذ هي من أعظم رزق ابن آدم .

ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴿15﴾

التفسير:

قوله تعالى : ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون قوله تعالى : ثم إنكم بعد ذلك لميتون أي بعد الخلق والحياة . والنحاس : ويقال في هذا المعنى لمائتون .

ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ تُبْعَثُونَ ﴿16﴾

التفسير:

ثم أخبر بالبعث بعد الموت فقال : ثم إنكم يوم القيامة تبعثون .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَٰفِلِينَ ﴿17﴾

التفسير:

قوله تعالى : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلينقوله تعالى : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق قال أبو عبيدة : أي سبع سماوات . وحكى عنه أنه يقال : طارقت الشيء ، أي جعلت بعضه فوق بعض ؛ فقيل للسماوات طرائق لأن بعضها فوق بعض . والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة . وقيل : لأنها طرائق الملائكة . وما كنا عن الخلق غافلين قال بعض العلماء : عن خلق السماء . وقال أكثر المفسرين : أي عن الخلق كلهم من أن تسقط عليهم فتهلكهم .قلت : ويحتمل أن يكون المعنى وما كنا عن الخلق غافلين أي في القيام بمصالحه وحفظه ؛ وهو معنى ( الحي القيوم ) ؛ على ما تقدم .

وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءًۢ بِقَدَرٍۢ فَأَسْكَنَّٰهُ فِى ٱلْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍۭ بِهِۦ لَقَٰدِرُونَ ﴿18﴾

التفسير:

قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فيه أربع مسائل :الأولى : هذه الآية من نعم الله تعالى على خلقه ومما امتن به عليهم ؛ ومن أعظم المنن الماء الذي هو حياة الأبدان ونماء الحيوان . والماء المنزل من السماء على قسمين : هذا الذي ذكر الله سبحانه وتعالى وأخبر بأنه استودعه في الأرض ، وجعله فيها مختزنا لسقي الناس يجدونه عند الحاجة إليه ؛ وهو ماء الأنهار ، والعيون ، وما يستخرج من الآبار . وروي عن ابن عباس وغيره أنه إنما أراد الأنهار الأربعة : سيحان ، وجيحان ، ونيل مصر ، والفرات . وقال مجاهد : ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء . وهذا ليس على إطلاقه ، وإلا فالأجاج ثابت في الأرض ، فيمكن أن يقيد قوله بالماء العذب ، ولا محالة أن الله تعالى قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء . وقد قيل : إن قوله : وأنزلنا من السماء ماء إشارة إلى الماء العذب ، وأن أصله من البحر ، رفعه الله تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء ، حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد ؛ ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به ، ولو كان الأمر إلى ماء البحر لما انتفع به من ملوحته .الثانية : قوله تعالى : ( بقدر ) أي على مقدار مصلح ، لأنه لو كثر أهلك ؛ ومنه قوله تعالى : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم . وإنا على ذهاب به لقادرون يعني الماء المختزن . وهذا تهديد ووعيد ؛ أي في قدرتنا إذهابه وتغويره ، ويهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم ؛ وهذا كقوله تعالى : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا أي غائرا فمن يأتيكم بماء معين .الثالثة : ذكر النحاس : قرئ على أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، عن جامع بن سوادة قال : حدثنا سعيد بن سابق ، قال : حدثنا مسلمة بن علي ، عن مقاتل بن حيان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أنزل الله - عز وجل - من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار : سيحون وهو نهر الهند ، وجيحون وهو نهر بلخ ، ودجلة ، والفرات وهما نهرا العراق ، والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل - عليه السلام - فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله جل ثناؤه : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض فإذا كان عند خروج يأجوج ، ومأجوج أرسل الله - عز وجل - جبريل فرفع من الأرض القرآن ، والعلم ، وجميع الأنهار الخمسة ، فيرفع ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى : وإنا على ذهاب به لقادرون فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا .الرابعة : كل ما نزل من السماء مختزنا كان أو غير مختزن فهو طاهر مطهر يغتسل به ويتوضأ منه ؛ على ما يأتي في ( الفرقان ) بيانه .

فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِۦ جَنَّٰتٍۢ مِّن نَّخِيلٍۢ وَأَعْنَٰبٍۢ لَّكُمْ فِيهَا فَوَٰكِهُ كَثِيرَةٌۭ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿19﴾

التفسير:

قوله تعالى : فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلونفيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : ( فأنشأنا ) أي جعلنا ذلك سبب النبات ، وأوجدناه به وخلقناه .وذكر تعالى النخيل والأعناب لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما ؛ قاله الطبري . ولأنها أيضا أشرف الثمار ، فذكرها تشريفا لها وتنبيها عليها . لكم فيها أي في الجنات . ( فواكه ) من غير الرطب والعنب . ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة إذ فيها مراتب وأنواع ؛ والأول أعم لسائر الثمرات .الثانية : من حلف ألا يأكل فاكهة ؛ في الرواية عندنا يحنث بالباقلاء الخضراء وما أشبهها . وقال أبو حنيفة : لا يحنث بأكل القثاء ، والخيار ، والجزر ، لأنها من البقول لا من الفاكهة . وكذلك الجوز ، واللوز ، والفستق ؛ لأن هذه الأشياء لا تعد من الفاكهة ، وإن أكل تفاحا ، أو خوخا ، أو مشمشا ، أو تينا ، أو إجاصا يحنث . وكذلك البطيخ ؛ لأن هذه الأشياء كلها تؤكل على جهة التفكه قبل الطعام وبعده ؛ فكانت فاكهة . وكذلك يابس هذه الأشياء إلا البطيخ اليابس لأن ذلك لا يؤكل إلا في بعض البلدان . ولا يحنث بأكل البطيخ الهندي لأنه لا يعد من الفواكه . وإن أكل عنبا ، أو رمانا ، أو رطبا لا يحنث . وخالفه صاحباه فقالا يحنث ؛ لأن هذه الأشياء من أعز الفواكه ، وتؤكل على وجه التنعم . والإفراد لها بالذكر في كتاب الله عز و جل لكمال معانيها ؛ كتخصيص جبريل ، وميكائيل من الملائكة . واحتج أبو حنيفة بأن قال : عطف هذه الأشياء على الفاكهة مرة فقال فيهما فاكهة ونخل ورمان ومرة عطف الفاكهة على هذه الأشياء فقال : وفاكهة وأبا والمعطوف غير المعطوف عليه ، ولا يليق بالحكمة ذكر الشيء الواحد بلفظين مختلفين في موضع المنة . والعنب والرمان يكتفى بهما في بعض البلدان فلا يكون فاكهة ؛ ولأن ما كان فاكهة لا فرق بين رطبه ويابسه ، ويابس هذه الأشياء لا يعد فاكهة فكذلك رطبها .

وَشَجَرَةًۭ تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنۢبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍۢ لِّلْءَاكِلِينَ ﴿20﴾

التفسير:

قوله تعالى : وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلينفيه ست مسائل : الأولى : قوله تعالى : ( وشجرة ) شجرة عطف على جنات . وأجاز الفراء الرفع لأنه لم يظهر الفعل ، بمعنى وثم شجرة ؛ ويريد بها شجرة الزيتون . وأفردها بالذكر لعظيم منافعها في أرض الشام والحجاز وغيرهما من البلاد ، وقلة تعاهدها بالسقي والحفر وغير ذلك من المراعاة في سائر الأشجار . ( تخرج ) في موضع الصفة . من طور سيناء أي أنبتها الله في الأصل من هذا الجبل الذي بارك الله فيه . وطور سيناء من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى - عليه السلام - ؛ قاله ابن عباس وغيره ، وقد تقدم في البقرة والأعراف . والطور الجبل في كلام العرب . وقيل : هو مما عرب من كلام العجم . وقال ابن زيد : هو جبل بيت المقدس ممدود من مصر إلى أيلة . واختلف في سيناء ؛ فقال قتادة : معناه الحسن ؛ ويلزم على هذا التأويل أن ينون الطور على النعت . وقال مجاهد : معناه مبارك . وقال معمر عن فرقة : معناه شجر ؛ ويلزمهم أن ينونوا الطور . وقال الجمهور : هو اسم الجبل ؛ كما تقول جبل أحد . وعن مجاهد أيضا : سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده . وقال مقاتل : كل جبل يحمل الثمار فهو سيناء ؛ أي حسن . وقرأ الكوفيون بفتح السين على وزن فعلاء ؛ وفعلاء في كلام العرب كثير ؛ يمنع من الصرف في المعرفة والنكرة ؛ لأن في آخرها ألف التأنيث ، وألف التأنيث ملازمة لما هي فيه ، وليس في الكلام فعلاء ، ولكن من قرأ سيناء بكسر السين جعله فعلالا ؛ فالهمزة فيه كهمزة حرباء ، ولم يصرف في هذه الآية لأنه جعل اسم بقعة . وزعم الأخفش أنه اسم أعجمي .الثانية : قوله تعالى : تنبت بالدهن قرأ الجمهور ( تنبت ) بفتح التاء وضم الباء ، والتقدير : تنبت ومعها الدهن ؛ كما تقول : خرج زيد بسلاحه . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بضم التاء وكسر الباء . واختلف في التقدير على هذه القراءة ؛ فقال أبو علي الفارسي : التقدير تنبت جناها ومعه الدهن ؛ فالمفعول محذوف . وقيل : الباء زائدة ؛ مثل ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وهذا مذهب أبي عبيدة . وقال الشاعر :نضرب بالسيف ونرجو بالفرجوقال آخر :هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسورونحو هذا قاله أبو علي أيضا ؛ وقد تقدم . وقيل : نبت وأنبت بمعنى ؛ فيكون المعنى كما مضى في قراءة الجمهور ، وهو مذهب الفراء ، وأبي إسحاق ، ومنه قول زهير :حتى إذا أنبت البقلوالأصمعي ينكر أنبت ، ويتهم قصيدة زهير التي فيها :رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا بها حتى إذا أنبت البقلأي نبت . وقرأ الزهري ، والحسن ، والأعرج ( تنبت بالدهن ) برفع التاء ونصب الباء . قال ابن جني ، والزجاج : هي باء الحال ؛ أي تنبت ومعها دهنها . وفي قراءة ابن مسعود : ( تخرج بالدهن ) وهي باء الحال . ابن درستويه : الدهن الماء اللين ؛ تنبت من الإنبات . وقرأ زر بن حبيش ( تنبت ) بضم التاء وكسر الباء ( الدهن ) بحذف الباء ونصبه . وقرأ سليمان بن عبد الملك ، والأشهب ( بالدهان ) . والمراد من الآية تعديد نعمة الزيت على الإنسان ، وهي من أركان النعم التي لا غنى بالصحة عنها . ويدخل في معنى الزيتون شجر الزيت كله على اختلافه بحسب الأقطار .الثالثة : قوله تعالى : وصبغ للآكلين قراءة الجمهور . وقرأت فرقة ( وأصباغ ) بالجمع . وقرأ عامر بن عبد قيس ( ومتاعا ) ؛ ويراد به الزيت الذي يصطبغ به الأكل ؛ يقال : صبغ وصباغ ؛ مثل دبغ ودباغ ، ولبس ولباس . وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ ؛ حكاه الهروي ، وغيره . وأصل الصبغ ما يلون به الثوب ، وشبه الإدام به لأن الخبز يلون بالصبغ إذا غمس فيه . وقال مقاتل : الأدم الزيتون ، والدهن الزيت . وقد جعل الله تعالى في هذه الشجرة أدما ودهنا ؛ فالصبغ على هذا الزيتون .الرابعة : لا خلاف أن كل ما يصطبغ فيه من المائعات كالزيت ، والسمن ، والعسل ، والرب ، والخل ، وغير ذلك من الأمراق أنه إدام . وقد نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخل ، فقال : نعم الإدام الخل رواه تسعة من الصحابة ، سبعة رجال وامرأتان . وممن رواه في الصحيح جابر ، وعائشة ، وخارجة ، وعمر ، وابنه عبيد الله ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وسمرة بن جندب ، وأنس ، وأم هانئ .الخامسة : واختلف فيما كان جامدا كاللحم ، والتمر ، والزيتون ، وغير ذلك من الجوامد ؛ فالجمهور أن ذلك كله إدام ؛ فمن حلف ألا يأكل إداما فأكل لحما أو جبنا حنث . وقال أبو حنيفة : لا يحنث ؛ وخالفه صاحباه . وقد روي عن أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة . والبقل ليس بإدام في قولهم جميعا . وعن الشافعي في التمر وجهان ؛ والمشهور أنه ليس بإدام لقوله في التنبيه . وقيل يحنث ؛ والصحيح أن هذا كله إدام . وقد روى أبو داود ، عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة فقال : هذا إدام هذه . وقال : صلى الله عليه وسلم - : سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم . ذكره أبو عمر . وترجم البخاري ( باب الإدام ) وساق حديث عائشة ؛ ولأن الإدام مأخوذ من المؤادمة وهي الموافقة ، وهذه الأشياء توافق الخبز فكان إداما . وفي الحديث عنه - عليه السلام - : ائتدموا ولو بالماء . ولأبي حنيفة أن حقيقة الإدام الموافقة في الاجتماع على وجه لا يقبل الفصل ؛ كالخل ، والزيت ، ونحوهما ، وأما اللحم ، والبيض ، وغيرهما لا يوافق الخبز بل يجاوزه كالبطيخ ، والتمر ، والعنب . والحاصل : أن كل ما يحتاج في الأكل إلى موافقة الخبز كان إداما ، وكل ما لا يحتاج ويؤكل على حدة لا يكون إداما ، والله أعلم .السادسة : روى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة . هذا حديث لا يعرف إلا من حديث عبد الرزاق ، وكان يضطرب فيه ، فربما يذكر فيه عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وربما رواه على الشك فقال : أحسبه عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وربما قال : عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال مقاتل : خص الطور بالزيتون لأن أول الزيتون نبت منها . وقيل : إن الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان . والله أعلم .

وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلْأَنْعَٰمِ لَعِبْرَةًۭ ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَٰفِعُ كَثِيرَةٌۭ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿21﴾

التفسير:

قوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلونتقدم القول فيهما في ( النحل ) والحمد لله . وفي هود قصة السفينة ونوح ، وركوب البحر في غير موضع .

وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴿22﴾

التفسير:

قوله تعالى : وعليها أي وعلى الأنعام في البر . وعلى الفلك في البحر . تحملون وإنما يحمل في البر على الإبل فيجوز أن ترجع الكناية إلى بعض الأنعام . وروي أن رجلا ركب بقرة في الزمان الأول فأنطقها الله تعالى معه فقالت : إنا لم نخلق لهذا ! وإنما خلقت للحرث .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥٓ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿23﴾

التفسير:

قرئ بالخفض ردا على اللفظ , وبالرفع ردا على المعنى .وقد مضى في " الأعراف " .

فَقَالَ ٱلْمَلَؤُا۟ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِن قَوْمِهِۦ مَا هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٌۭ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَٰٓئِكَةًۭ مَّا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِىٓ ءَابَآئِنَا ٱلْأَوَّلِينَ ﴿24﴾

التفسير:

قوله تعالى : ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم أي يسودكم ويشرف عليكم بأن يكون متبوعا ونحن له تبع . ولو شاء الله لأنزل ملائكة أي لو شاء الله ألا يعبد شيء سواه لجعل رسوله ملكا . ما سمعنا بهذا أي بمثل دعوته . وقيل : ما سمعنا بمثله بشرا ؛ أي برسالة ربه . في آبائنا الأولين أي في الأمم الماضية ؛ قاله ابن عباس . والباء في بهذا زائدة ؛ أي ما سمعنا هذا كائنا في أبائنا الأولين ،

إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌۢ بِهِۦ جِنَّةٌۭ فَتَرَبَّصُوا۟ بِهِۦ حَتَّىٰ حِينٍۢ ﴿25﴾

التفسير:

ثم عطف بعضهم على بعض فقالوا إن هو يعنون نوحا إلا رجل به جنة أي جنون لا يدري ما يقول . فتربصوا به حتى حين أي انتظروا موته . وقيل : حتى يستبين جنونه . وقال الفراء : ليس يراد بالحين هاهنا وقت بعينه ، إنما هو كقوله : دعه إلى يوم ما . فقال حين تمادوا على كفرهم :

قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ ﴿26﴾

التفسير:

أي انتقم ممن لم يطعني ولم يسمع رسالتي.

فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ ۙ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّۢ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓا۟ ۖ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ﴿27﴾

التفسير:

فأوحينا إليه أي أرسلنا إليه رسلا من السماء أن اصنع الفلك على ما تقدم بيانه .قوله تعالى : فاسلك فيها أي أدخل فيها واجعل فيها ؛ يقال : سلكته في كذا وأسلكته فيه إذا أدخلته . قال عبد مناف بن ربع الهذلي :حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردامن كل زوجين اثنين قرأ حفص من كل بالتنوين ، الباقون بالإضافة ؛ وقد ذكر . وقال الحسن : لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض ، فأما البق ، والذباب ، والدود فلم يحمل شيئا منها ، وإنما خرج من الطين . وقد مضى القول في السفينة والكلام فيها مستوفى ، والحمد لله .

فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى نَجَّىٰنَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴿28﴾

التفسير:

قوله تعالى : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين قوله تعالى : فإذا استويت أي علوت . أنت ومن معك على الفلك راكبين .فقل الحمد لله أي احمدوا الله على تخليصه إياكم . الذي نجانا من القوم الظالمين ومن الغرق . والحمد لله : كلمة كل شاكر لله . وقد مضى في الفاتحة بيانه .

وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلًۭا مُّبَارَكًۭا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ ﴿29﴾

التفسير:

قوله تعالى : وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلينقوله تعالى : وقل رب أنزلني منزلا مباركا قراءة العامة منزلا بضم الميم وفتح الزاي ، على المصدر الذي هو الإنزال ؛ أي أنزلني إنزالا مباركا . وقرأ زر بن حبيش ، وأبو بكر ، عن عاصم ، والمفضل منزلا بفتح الميم وكسر الزاي على الموضع ؛ أي أنزلني موضعا مباركا . الجوهري : المنزل ( بفتح الميم والزاي ) النزول وهو الحلول ؛ تقول : نزلت نزولا ومنزلا . وقال :أأن ذكرتك الدار منزلها جمل بكيت فدمع العين منحدر سجلنصب ( المنزل ) لأنه مصدر . وأنزله غيره واستنزله بمعنى . ونزله تنزيلا ؛ والتنزيل أيضا الترتيب . قالابن عباس ، ومجاهد : هذا حين خرج من السفينة ؛ مثل قوله تعالى : اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك . وقيل : حين دخلها ؛ فعلى هذا يكون قوله : مباركا يعني بالسلامة والنجاة .قلت : وبالجملة فالآية تعليم من الله - عز وجل - لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا أن يقولوا هذا ؛ بل وإذا دخلوا بيوتهم وسلموا قالوا . وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه كان إذا دخل المسجد قال : اللهم أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين .

إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴿30﴾

التفسير:

قوله تعالى : إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلينقوله تعالى : إن في ذلك أي في أمر نوح ، والسفينة ، وإهلاك الكافرين . لآيات أي دلالات على كمال قدرة الله تعالى ، وأنه ينصر أنبياءه ، ويهلك أعداءهم . وإن كنا لمبتلين أي ما كنا إلا مبتلين الأمم قبلكم ؛ أي مختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم ليظهر المطيع ، والعاصي فيتبين للملائكة حالهم ؛ لا أن يستجد الرب علما . وقيل : أي نعاملهم معاملة المختبرين . وقد تقدم هذا المعنى في ( البقرة ) وغيرها . وقيل : ( وإن كنا ) أي وقد كنا .

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنۢ بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ ﴿31﴾

التفسير:

قوله تعالى : ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قوله تعالى : ثم أنشأنا من بعدهم أي من بعد هلاك قوم نوح . قرنا آخرين قيل : هم قوم عاد .

فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًۭا مِّنْهُمْ أَنِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥٓ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿32﴾

التفسير:

فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون يعني هودا ؛ لأنه ما كانت أمة أنشئت في إثر قوم نوح إلا عاد . وقيل : هم قوم ثمود فأرسلنا فيهم رسولا يعني صالحا . قالوا : والدليل عليه قوله تعالى آخر الآية : فأخذتهم الصيحة ؛ نظيرها : وأخذ الذين ظلموا الصيحة .قلت : وممن أخذ بالصيحة أيضا أصحاب مدين قوم شعيب ، فلا يبعد أن يكونوا هم ، والله أعلم . منهم أي من عشيرتهم ، يعرفون مولده ومنشأه ليكون سكونهم إلى قوله أكثر .

وَقَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَكَذَّبُوا۟ بِلِقَآءِ ٱلْءَاخِرَةِ وَأَتْرَفْنَٰهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٌۭ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴿33﴾

التفسير:

قوله تعالى : وقال الملأ أي الأشراف والقادة والرؤساء . من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة يريد بالبعث والحساب . وأترفناهم في الحياة الدنيا أي وسعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا وصاروا يؤتون بالترفة ، وهي مثل التحفة . ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون فلا فضل له عليكم لأنه محتاج إلى الطعام والشراب كأنتم . وزعم الفراء أن معنى ويشرب مما تشربون على حذف من ، أي مما تشربون منه ؛ وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف البتة ؛ لأن ( ما ) إذا كان مصدرا لم يحتج إلى عائد ، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم يحتج إلى إضمار من .

وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًۭا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًۭا لَّخَٰسِرُونَ ﴿34﴾

التفسير:

ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون يريد لمغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم .

أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًۭا وَعِظَٰمًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ﴿35﴾

التفسير:

أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون أي مبعوثون من قبوركم . و ( أن ) الأولى في موضع نصب بوقوع ( يعدكم ) عليها ، والثانية بدل منها ؛ هذا مذهب سيبويه . والمعنى : أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم . قال الفراء : وفي قراءة عبد الله ( أيعدكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ) ؛ وهو كقولك : أظن إن خرجت أنك نادم . وذهب الفراء ، والجرمي ، وأبو العباس المبرد إلى أن الثانية مكررة للتوكيد ، لما طال الكلام كان تكريرها حسنا . وقال الأخفش : المعنى أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما يحدث إخراجكم ؛ ف ( أن ) الثانية في موضع رفع بفعل مضمر ؛ كما تقول : اليوم القتال ، فالمعنى اليوم يحدث القتال . وقال أبو إسحاق : ويجوز أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ؛ لأن معنى أيعدكم أيقول إنكم .

۞ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴿36﴾

التفسير:

قوله تعالى : هيهات هيهات لما توعدونقال ابن عباس : هي كلمة للبعد ؛ كأنهم قالوا بعيد ما توعدون ؛ أي أن هذا لا يكون ما يذكر من البعث . وقال أبو علي : هي بمنزلة الفعل ؛ أي بعد ما توعدون . وقال ابن الأنباري : وفي هيهات عشر لغات : هيهات لك ( بفتح التاء ) وهي قراءة الجماعة . وهيهات لك ( بخفض التاء ) ؛ ويروى عن أبي جعفر بن القعقاع . وهيهات لك ( بالخفض والتنوين ) يروى عن عيسى بن عمر . وهيهات لك ( برفع التاء ) ؛ الثعلبي : وبها قرأ نصر بن عاصم وأبو العالية . وهيهات لك ( بالرفع والتنوين ) وبها قرأ أبو حيوة الشامي ؛ ذكره الثعلبي أيضا . وهيهاتا لك ( بالنصب والتنوين ) قال الأحوص :تذكرت أياما مضين من الصبا وهيهات هيهاتا إليك رجوعهاواللغة السابعة : أيهات أيهات ؛ وأنشد الفراء :فأيهات أيهات العقيق ومن به وأيهات خل بالعقيق نواصلهقال المهدوي : وقرأ عيسى الهمداني ( هيهات هيهات ) بالإسكان . قال ابن الأنباري : ومن العرب من يقول ( أيهان ) بالنون ، ومنهم من يقول ( أيها ) بلا نون . وأنشد الفراء :ومن دوني الأعيان والقنع كله وكتمان أيها ما أشت وأبعدافهذه عشر لغات . فمن قال هيهات بفتح التاء جعله مثل أين وكيف . وقيل : لأنهما أداتان مركبتان مثل خمسة عشر ، وبعلبك ، ورام هرمز ، وتقف على الثاني بالهاء ؛ كما تقول : خمس عشرة ، وسبع عشرة . وقال الفراء : نصبها كنصب ثمت وربت ، ويجوز أن يكون الفتح إتباعا للألف والفتحة التي قبلها . ومن كسره جعله مثل أمس وهؤلاء . قال :وهيهات هيهات إليك رجوعهاقال الكسائي : ومن كسر التاء وقف عليها بالهاء ؛ فيقول هيهاه . ومن نصبها وقف بالتاء وإن شاء بالهاء . ومن ضمها فعلى مثل منذ وقط وحيث . ومن قرأ ( هيهات ) بالتنوين فهو جمع ذهب به إلى التنكير ؛ كأنه قال بعدا بعدا . وقيل : خفض ونون تشبيها بالأصوات بقولهم : غاق وطاق . وقال الأخفش : يجوز في هيهات أن تكون جماعة فتكون التاء التي فيها تاء الجميع التي للتأنيث . ومن قرأ ( هيهات ) جاز أن يكون أخلصها اسما معربا فيه معنى البعد ، ولم يجعله اسما للفعل فيبنيه . وقيل : شبه التاء بتاء الجمع ، كقوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات . قال الفراء : وكأني أستحب الوقف على التاء ؛ لأن من العرب من يخفض التاء على كل حال ؛ فكأنها مثل عرفات وملكوت وما أشبه ذلك . وكان مجاهد ، وعيسى بن عمر ، وأبو عمرو بن العلاء ، والكسائي ، وابن كثير يقفون عليها ( هيهاه ) بالهاء . وقد روي عن أبي عمرو أيضا أنه كان يقف على هيهات بالتاء ، وعليه بقية القراء لأنها حرف . قال ابن الأنباري . من جعلهما حرفا واحدا لا يفرد أحدهما من الآخر ، وقف على الثاني بالهاء ولم يقف على الأول ؛ فيقول : هيهات هيهاه ، كما يقول خمس عشرة ، على ما تقدم . ومن نوى إفراد أحدهما من الآخر وقف فيهما جميعا بالهاء والتاء ؛ لأن أصل الهاء تاء .

إِنْ هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴿37﴾

التفسير:

قوله تعالى : إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين قوله تعالى : إن هي إلا حياتنا الدنيا هي كناية عن الدنيا ؛ أي ما الحياة إلا ما نحن فيه لا الحياة الآخرة التي تعدنا بعد البعث . نموت ونحيا يقال : كيف قالوا نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث ؟ ففي هذا أجوبة ؛ منها أن يكون المعنى : نكون مواتا ، أي نطفا ثم نحيا في الدنيا . وقيل : فيه تقديم وتأخير ؛ أي إن هي إلا حياتنا الدنيا نحيا فيها ونموت ؛ كما قال : واسجدي واركعي . وقيل : نموت يعني الآباء ، ونحيا يعني الأولاد . وما نحن بمبعوثين بعد الموت .

إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًۭا وَمَا نَحْنُ لَهُۥ بِمُؤْمِنِينَ ﴿38﴾

التفسير:

إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌيعنون الرسول .افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَأي اختلق .

قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ ﴿39﴾

التفسير:

أي انتقم ممن لم يطعني ولم يسمع رسالتي .

قَالَ عَمَّا قَلِيلٍۢ لَّيُصْبِحُنَّ نَٰدِمِينَ ﴿40﴾

التفسير:

قَالَ عَمَّا قَلِيلٍأي عن قليل , و " ما " زائدة مؤكدة .لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَعلى كفرهم , واللام لام القسم ; أي والله ليصبحن .

فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ بِٱلْحَقِّ فَجَعَلْنَٰهُمْ غُثَآءًۭ ۚ فَبُعْدًۭا لِّلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴿41﴾

التفسير:

فأخذتهم الصيحة بالحق في التفاسير : صاح بهم جبريل - عليه السلام - صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله تعالى بها فماتوا عن آخرهم . فجعلناهم غثاء أي هلكى هامدين كغثاء السيل ، وهو ما يحمله من بالي الشجر من الحشيش والقصب مما يبس وتفتت . فبعدا للقوم الظالمين أي هلاكا لهم . وقيل بعدا لهم من رحمة الله ؛ وهو منصوب على المصدر . ومثله سقيا له ورعيا .

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنۢ بَعْدِهِمْ قُرُونًا ءَاخَرِينَ ﴿42﴾

التفسير:

قوله تعالى : ثم أنشأنا من بعدهم أي من بعد هلاك هؤلاء . قرونا أي أمما . آخرين قال ابن عباس : يريد بني إسرائيل ؛ وفي الكلام حذف : فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم .

مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَـْٔخِرُونَ ﴿43﴾

التفسير:

ما تسبق من أمة أجلها من صلة ؛ أي ما تسبق أمة الوقت المؤقت لها ولا تتأخره ؛ مثل قوله تعالى : فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون .

ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ۖ كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةًۭ رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ۚ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًۭا وَجَعَلْنَٰهُمْ أَحَادِيثَ ۚ فَبُعْدًۭا لِّقَوْمٍۢ لَّا يُؤْمِنُونَ ﴿44﴾

التفسير:

ومعنى تترى تتواتر ، ويتبع بعضهم بعضا ترغيبا وترهيبا . قال الأصمعي : واترت كتبي عليه أتبعت بعضها بعضا ؛ إلا أن بين كل واحد وبين الآخر مهلة . وقال غيره : المواترة التتابع بغير مهلة . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ( تترى ) بالتنوين على أنه مصدر أدخل فيه التنوين على فتح الراء ؛ كقولك : حمدا وشكرا ؛ فالوقف على هذا على الألف المعوضة من التنوين . ويجوز أن يكون ملحقا بجعفر ، فيكون مثل أرطى وعلقى ؛ كما قال :يستن في علقى وفي مكورفإذا وقف على هذا الوجه جازت الإمالة ، على أن ينوي الوقف على الألف الملحقة . وقرأ ورش بين اللفظتين ؛ مثل سكرى وغضبى ، وهو اسم جمع ؛ مثل شتى وأسرى . وأصله وترى من المواترة والتواتر ، فقلبت الواو تاء ؛ مثل التقوى ، والتكلان ، وتجاه ، ونحوها . وقيل : هو الوتر وهو الفرد ؛ فالمعنى أرسلناهم فردا فردا . النحاس : وعلى هذا يجوز ( تترا ) بكسر التاء الأولى ، وموضعها نصب على المصدر ؛ لأن معنى ثم أرسلنا واترنا . ويجوز أن يكون في موضع الحال أي متواترين . فأتبعنا بعضهم بعضا أي بالهلاك . وجعلناهم أحاديث جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به ؛ كأعاجيب جمع أعجوبة ، وهي ما يتعجب منه . قال الأخفش : إنما يقال هذا في الشر جعلناهم أحاديث ولا يقال في الخير ؛ كما يقال : صار فلان حديثا أي عبرة ومثلا ؛ كما قال في آية أخرى : فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق . قلت : وقد يقال فلان حديث حسن ، إذا كان مقيدا بذكر ذلك ؛ ومنه قول ابن دريد :وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَٰرُونَ بِـَٔايَٰتِنَا وَسُلْطَٰنٍۢ مُّبِينٍ ﴿45﴾

التفسير:

إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِۦ فَٱسْتَكْبَرُوا۟ وَكَانُوا۟ قَوْمًا عَالِينَ ﴿46﴾

التفسير:

متكبرين قاهرين لغيرهم بالظلم ; كما قال تعالى : " إن فرعون علا في الأرض " [ القصص : 4 ]

فَقَالُوٓا۟ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَٰبِدُونَ ﴿47﴾

التفسير:

فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا۟ مِنَ ٱلْمُهْلَكِينَ ﴿48﴾

التفسير:

أي بالغرق في البحر .

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَٰبَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴿49﴾

التفسير:

يعني التوراة ; وخص موسى بالذكر لأن التوراة أنزلت عليه في الطور , وهارون خليفة في قومه .ولو قال " ولقد آتيناهما " جاز ; كما قال : " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان " [ الأنبياء : 48 ] .

وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةًۭ وَءَاوَيْنَٰهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍۢ ذَاتِ قَرَارٍۢ وَمَعِينٍۢ ﴿50﴾

التفسير:

قوله تعالى : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعينقوله تعالى : وجعلنا ابن مريم وأمه آية تقدم في ( الأنبياء ) القول فيه . وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين الربوة المكان المرتفع من الأرض ؛ وقد تقدم في ( البقرة ) . والمراد بها هاهنا في قول أبي هريرة فلسطين . وعنه أيضا الرملة ؛ وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال ابن عباس ، وابن المسيب ، وابن سلام : دمشق . وقال كعب ، وقتادة : بيت المقدس . قال كعب : وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا . قال :فكنت هميدا تحت رمس بربوة تعاورني ريح جنوب وشمألوقال ابن زيد : مصر . وروى سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير وآويناهما إلى ربوة قال : النشز من الأرض . ذات قرار أي مستوية يستقر عليها . وقيل : ذات ثمار ، ولأجل الثمار يستقر فيها الساكنون . ( ومعين ) ماء جار ظاهر للعيون . يقال : معين ومعن ؛ كما يقال : رغيف ورغف ؛ قاله علي بن سليمان . وقال الزجاج : هو الماء الجاري في العيون ؛ فالميم على هذا زائدة كزيادتها في مبيع ، وكذلك الميم زائدة في قول من قال إنه الماء الذي يرى بالعين . وقيل : إنه فعيل بمعنى مفعول . قال علي بن سليمان : يقال معن الماء إذا جرى فهو معين ومعيون . ابن الأعرابي : معن الماء يمعن معونا إذا جرى وسهل ، وأمعن أيضا وأمعنته ، ومياه معنان .

يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُوا۟ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعْمَلُوا۟ صَٰلِحًا ۖ إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌۭ ﴿51﴾

التفسير:

قوله تعالى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليمفيه ثلاث مسائل :الأولى : روى الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم - ثم ذكر - الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك .الثانية : قال بعض العلماء : والخطاب في هذه الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه أقامه مقام الرسل ؛ كما قال : الذين قال لهم الناس يعني نعيم بن مسعود . وقال الزجاج : هذه مخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودل الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا ؛ أي كلوا من الحلال . وقال الطبري : الخطاب لعيسى - عليه السلام - ؛ روي أنه كان يأكل من غزل أمه . والمشهور عنه أنه كان يأكل من بقل البرية . ووجه خطابه لعيسى ما ذكرناه من تقديره لمحمد - صلى الله عليه وسلم - تشريفا له . وقيل : إن هذه المقالة خوطب بها كل نبي ؛ لأن هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها . فيكون المعنى : وقلنا يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ؛ كما تقول لتاجر : يا تجار ينبغي أن تجتنبوا الربا ؛ فأنت تخاطبه بالمعنى . وقد اقترن بذلك أن هذه المقالة تصلح لجميع صنفه ، فلم يخاطبوا قط مجتمعين صلوات الله عليهم أجمعين ، وإنما خوطب كل واحد في عصره . قال الفراء : هو كما تقول للرجل الواحد : كفوا عنا أذاكم .الثالثة : سوى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام ، ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى : إني بما تعملون عليم صلى الله على رسله وأنبيائه . وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم . وقد مضى القول في الطيبات والرزق في غير موضع ، والحمد لله . وفي قوله - عليه السلام - : يمد يديه دليل على مشروعية مد اليدين عند الدعاء إلى السماء ؛ وقد مضى الخلاف في هذا والكلام فيه والحمد لله . وقوله - عليه السلام - : فأنى يستجاب لذلك على جهة الاستبعاد ؛ أي أنه ليس أهلا لإجابة دعائه لكن يجوز أن يستجيب الله له تفضلا ولطفا وكرما .

وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمْ أُمَّةًۭ وَٰحِدَةًۭ وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ ﴿52﴾

التفسير:

قوله تعالى : وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقونفيه أربع مسائل :الأولى : قوله تعالى : وإن هذه أمتكم أمة واحدة المعنى : هذا الذي تقدم ذكره هو دينكم وملتكم فالتزموه . والأمة هنا الدين ؛ وقد تقدم محامله ؛ ومنه قوله تعالى : إنا وجدنا آباءنا على أمة أي على دين . وقال النابغة :حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائعالثانية : قرئ ( وإن هذه ) بكسر ( إن ) على القطع ، وبفتحها وتشديد النون . قال الخليل : هي في موضع نصب لما زال الخافض ؛ أي أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به . وقال الفراء : ( أن ) متعلقة بفعل مضمر تقديره : واعلموا أن هذه أمتكم . وهي عند سيبويه متعلقة بقوله : فاتقون ؛ والتقدير فاتقون لأن أمتكم واحدة . وهذا كقوله تعالى : وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ؛ أي لأن المساجد لله فلا تدعوا معه غيره . وكقوله : لإيلاف قريش ؛ أي فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش .الثالثة : وهذه الآية تقوي أن قوله تعالى : يا أيها الرسل إنما هو مخاطبة لجميعهم ، وأنه بتقدير حضورهم . وإذا قدرت يا أيها الرسل مخاطبة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فلق اتصال هذه الآية واتصال قوله : فتقطعوا . أما أن قوله : وأنا ربكم فاتقون وإن كان قيل للأنبياء فأممهم داخلون فيه بالمعنى ؛ فيحسن بعد ذلك اتصال .

فَتَقَطَّعُوٓا۟ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًۭا ۖ كُلُّ حِزْبٍۭ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴿53﴾

التفسير:

فتقطعوا أي افترقوا ، يعني الأمم ، أي جعلوا دينهم أديانا بعد ما أمروا بالاجتماع . ثم ذكر تعالى أن كلا منهم معجب برأيه وضلالته وهذا غاية الضلال .الرابعة : هذه الآية تنظر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة وهي الجماعة الحديث . خرجه أبو داود ، ورواه الترمذي وزاد : قالوا ومن هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي خرجه من حديث عبد الله بن عمرو . وهذا يبين أن الافتراق المحذر منه في الآية والحديث إنما هو في أصول الدين وقواعده ، لأنه قد أطلق عليها مللا ، وأخبر أن التمسك بشيء من تلك الملل موجب لدخول النار . ومثل هذا لا يقال في الفروع ، فإنه لا يوجب تعديد الملل ولا عذاب النار ؛ قال الله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا .قوله تعالى : زبرا يعني كتبا وضعوها وضلالات ألفوها ؛ قاله ابن زيد . وقيل : إنهم فرقوا الكتب فاتبعت فرقة الصحف ، وفرقة التوراة ، وفرقة الزبور ، وفرقة الإنجيل ، ثم حرف الكل وبدل ؛ قاله قتادة . وقيل : أخذ كل فريق منهم كتابا آمن به وكفر بما سواه . و زبرا بضم الباء قراءة نافع ، جمع زبور . والأعمش ، وأبو عمرو بخلاف عنه زبرا بفتح الباء ، أي قطعا كقطع الحديد ؛ كقوله تعالى : آتوني زبر الحديد . كل حزب أي فريق وملة . بما لديهم أي عندهم من الدين . فرحون أي معجبون به .

فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ ﴿54﴾

التفسير:

وهذه الآية مثال لقريش خاطب محمدا - صلى الله عليه وسلم - في شأنهم متصلا بقوله : فذرهم في غمرتهم أي فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم ، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم ؛ فلكل شيء وقت . والغمرة في اللغة ما يغمرك ويعلوك ؛ وأصله الستر ؛ ومنه الغمر الحقد لأنه يغطي القلب . والغمر الماء الكثير لأنه يغطي الأرض . وغمر الرداء الذي يشمل الناس بالعطاء ؛ قال :غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المالالمراد هنا الحيرة والغفلة والضلالة . ودخل فلان في غمار الناس ، أي في زحمتهم . قوله تعالى : حتى حين قال مجاهد : حتى الموت ، فهو تهديد لا توقيت ؛ كما يقال : سيأتي لك يوم .

أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٍۢ وَبَنِينَ ﴿55﴾

التفسير:

قوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنينقوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( ما ) بمعنى الذي ؛ أي أيحسبون يا محمد أن الذي نعطيهم في الدنيا من المال والأولاد هو ثواب لهم ، إنما هو استدراج وإملاء ،

نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ ﴿56﴾

التفسير:

نسارع لهم في الخيرات قال ابن الأنباري : وهذا خطأ ؛ لأن ( أن ) كافية من اسم أن وخبرها ولا يجوز أن يؤتى بعد ( أن ) بمفعول ثان . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وعبد الرحمن بن أبي بكرة ( يسارع ) بالياء ، على أن يكون فاعله إمدادنا . وهذا يجوز أن يكون على غير حذف ؛ أي يسارع لهم الإمداد . ويجوز أن يكون فيه حذف ، ويكون المعنى يسارع الله لهم . وقرئ ( يسارع لهم في الخيرات ) وفيه ثلاثة أوجه : أحدها على حذف به . ويجوز أن يكون يسارع الإمداد . ويجوز أن يكون لهم اسم ما لم يسم فاعله ؛ ذكره النحاس . قال المهدوي : وقرأ الحر النحوي ( نسرع لهم في الخيرات ) وهو معنى قراءة الجماعة . قال الثعلبي : والصواب قراءة العامة ؛ لقوله : نمدهم . بل لا يشعرون أن ذلك فتنة لهم واستدراج .

إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴿57﴾

التفسير:

قوله تعالى : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين المسارعين في الخيرات ووعدهم ، وذكر ذلك بأبلغ صفاتهم . و مشفقون خائفون وجلون مما خوفهم الله تعالى .

وَٱلَّذِينَ هُم بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴿58﴾

التفسير:

وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ﴿59﴾

التفسير:

وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا۟ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَٰجِعُونَ ﴿60﴾

التفسير:

والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة قال الحسن : يؤتون الإخلاص ويخافون ألا يقبل منهم . وروى الترمذي ، عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة قالت عائشة : أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ قال : لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات . وقال الحسن : لقد أدركنا أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها . وقرأت عائشة - رضي الله عنها - وابن عباس ، والنخعي ( والذين يأتون ما أتوا ) مقصورا من الإتيان . قال الفراء : ولو صحت هذه القراءة عن عائشة لم تخالف قراءة الجماعة ؛ لأن الهمز من العرب من يلزم فيه الألف في كل الحالات إذا كتب ؛ فيكتب سئل الرجل بألف بعد السين ، ويستهزئون بألف بين الزاي والواو ، وشيء وشيء بألف بعد الياء ، فغير مستنكر في مذهب هؤلاء أن يكتب ( يؤتون ) بألف بعد الياء ، فيحتمل هذا اللفظ بالبناء على هذا الخط قراءتين ( يؤتون ما آتوا ) و ( يأتون ما أتوا ) . وينفرد ما عليه الجماعة باحتمال تأويلين : أحدهما : الذين يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقة وقلوبهم خائفة . والآخر : والذين يؤتون الملائكة الذين يكتبون الأعمال على العباد ما آتوا وقلوبهم وجلة ؛ فحذف مفعول في هذا الباب لوضوح معناه ؛ كما حذف في قوله - عز وجل - : فيه يغاث الناس وفيه يعصرون والمعنى يعصرون السمسم والعنب ؛ فاختزل المفعول لوضوح تأويله . ويكون الأصل في الحرف على هجائه الموجود في الإمام ( يأتون ) بألف مبدلة من الهمزة فكتبت الألف واوا لتآخي حروف المد واللين في الخفاء ؛ حكاه ابن الأنباري . قال النحاس : المعروف من قراءة ابن عباس ( والذين يأتون ما أتوا ) وهي القراءة المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عائشة - رضي الله عنها - ، ومعناها يعملون ما عملوا ؛ ما روي في الحديث . والوجل نحو الإشفاق والخوف ؛ فالتقي والتائب خوفه أمر العاقبة وما يطلع عليه بعد الموت . في قوله : أنهم إلى ربهم راجعون تنبيه على الخاتمة .وفي صحيح البخاري وإنما الأعمال بالخواتيم . وأما المخلط فينبغي له أن يكون تحت خوف من أن ينفذ عليه الوعيد بتخليطه . وقال أصحاب الخواطر : وجل العارف من طاعته أكثر وجلا من وجله من مخالفته ؛ لأن المخالفة تمحوها التوبة ، والطاعة تطلب بتصحيح الفرض . أنهم أي لأنهم ، أو من أجل أنهم إلى ربهم راجعون .

أُو۟لَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ ﴿61﴾

التفسير:

قوله تعالى : أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقونقوله تعالى : أولئك يسارعون في الخيرات أي في الطاعات ، كي ينالوا بذلك أعلى الدرجات والغرفات . وقرئ ( يسرعون ) في الخيرات ، أي يكونوا سراعا إليها . ويسارعون على معنى يسابقون من سابقهم إليها ؛ فالمفعول محذوف . قال الزجاج : يسارعون أبلغ من يسرعون .وهم لها سابقون أحسن ما قيل فيه : أنهم يسبقون إلى أوقاتها . ودل بهذا أن الصلاة في أول الوقت أفضل ؛ كما تقدم في ( البقرة ) وكل من تقدم في شيء فهو سابق إليه ، وكل من تأخر عنه فقد سبقه وفاته ؛ فاللام في لها على هذا القول بمعنى إلى ؛ كما قال بأن ربك أوحى لها أي أوحى إليها . وأنشد سيبويه [ للأعشى ] :تجانف عن جو اليمامة ناقتي وما قصدت من أهلها لسوائكاوعن ابن عباس في معنى وهم لها سابقون سبقت لهم من الله السعادة ؛ فلذلك سارعوا في الخيرات . وقيل : المعنى وهم من أجل الخيرات سابقون .

وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَلَدَيْنَا كِتَٰبٌۭ يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ ۚ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿62﴾

التفسير:

قوله تعالى : ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون قوله تعالى : ولا نكلف نفسا إلا وسعها قد مضى في ( البقرة ) وأنه ناسخ لجميع ما ورد في الشرع من تكليف ما لا يطاق . ولدينا كتاب ينطق بالحق أظهر ما قيل فيه : أنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة ؛ وأضافه إلى نفسه لأن الملائكة كتبت فيه أعمال العباد بأمره ، فهو ينطق بالحق . وفي هذا تهديد وتأييس من الحيف والظلم . ولفظ النطق يجوز في الكتاب ؛ والمراد أن النبيين تنطق بما فيه . والله أعلم . وقيل : عنى اللوح المحفوظ ، وقد أثبت فيه كل شيء ، فهم لا يجاوزون ذلك . وقيل : الإشارة بقوله : ولدينا كتاب القرآن ، فالله أعلم ، وكل محتمل والأول أظهر .

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍۢ مِّنْ هَٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَٰلٌۭ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَٰمِلُونَ ﴿63﴾

التفسير:

قوله تعالى : بل قلوبهم في غمرة من هذا قال مجاهد : أي في غطاء ، وغفلة ، وعماية عن القرآن . ويقال : غمره الماء إذا غطاه . ونهر غمر يغطي من دخله . ورجل غمر يغمره آراء الناس . وقيل : غمرة لأنها تغطي الوجه . ومنه دخل في غمار الناس وخمارهم ، أي فيما يغطيه من الجمع . وقيل : بل قلوبهم في غمرة أي في حيرة وعمى ؛ أي مما وصف من أعمال البر في الآيات المتقدمة ؛ قاله قتادة . أو من الكتاب الذي ينطق بالحق . ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون قال قتادة ، ومجاهد : أي لهم خطايا لا بد أن يعملوها من دون الحق . وقال الحسن ، وابن زيد : المعنى ولهم أعمال رديئة لم يعملوها من دون ما هم عليه ، لا بد أن يعملوها دون أعمال المؤمنين ، فيدخلون بها النار ، لما سبق لهم من الشقوة . ويحتمل ثالثا : أنه ظلم الخلق مع الكفر بالخالق ؛ ذكره الماوردي . والمعنى متقارب .

حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْـَٔرُونَ ﴿64﴾

التفسير:

حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب يعني بالسيف يوم بدر ؛ قاله ابن عباس . وقال الضحاك : يعني بالجوع حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف . فابتلاهم الله بالقحط والجوع حتى أكلوا العظام ، والميتة ، والكلاب ، والجيف ، وهلك الأموال والأولاد . إذا هم يجأرون أي يضجون ويستغيثون . وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع كما يفعل الثور . وقال الأعشى يصف بقرة :فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجأراقال الجوهري : الجؤار مثل الخوار ؛ يقال : جأر الثور يجأر أي صاح . وقرأ بعضهم ( عجلا جسدا له جؤار ) حكاه الأخفش . وجأر الرجل إلى الله - عز وجل - تضرع بالدعاء . قتادة : يصرخون بالتوبة فلا تقبل منهم . قال :يراوح من صلوات المليك فطورا سجودا وطورا جؤاراوقال ابن جريج : حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب هم الذين قتلوا ببدر إذا هم يجأرون هم الذين بمكة ؛ فجمع بين القولين المتقدمين ، وهو حسن .

لَا تَجْـَٔرُوا۟ ٱلْيَوْمَ ۖ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ ﴿65﴾

التفسير:

لا تجأروا اليوم أي من عذابنا . لا تنصرون لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم . وقال الحسن : لا تنصرون بقبول التوبة . وقيل : معنى هذا النهي الإخبار ؛ أي إنكم إن تضرعتم لم ينفعكم .

قَدْ كَانَتْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ تَنكِصُونَ ﴿66﴾

التفسير:

قوله تعالى : قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون الآيات يريد بها القرآن . تتلى عليكم أي تقرأ . قال الضحاك : قبل أن تعذبوا بالقتل و تنكصون ترجعون وراءكم . مجاهد : تستأخرون ؛ وأصله أن ترجع القهقرى . قال الشاعر :زعموا بأنهم على سبل النجا ة وإنما نكص على الأعقابوهو هنا استعارة للإعراض عن الحق . قرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ( على أدباركم ) بدل على أعقابكم ، ( تنكصون ) بضم الكاف .

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِۦ سَٰمِرًۭا تَهْجُرُونَ ﴿67﴾

التفسير:

مستكبرين به حال ، والضمير في به قال الجمهور : هو عائد على الحرم أو المسجد أو البلد الذي هو مكة ، وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الأمر ؛ أي يقولون : نحن أهل الحرم فلا نخاف . وقيل : المعنى أنهم يعتقدون في نفوسهم أن لهم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل ؛ فيستكبرون لذلك ، وليس الاستكبار من الحق . وقالت فرقة : الضمير عائد على القرآن من حيث ذكرت الآيات ؛ والمعنى : يحدث لكم سماع آياتي كبرا وطغيانا فلا تؤمنوا به . قال ابن عطية : وهذا قول جيد . النحاس : والقول الأول أولى ، والمعنى : أنهم يفتخرون بالحرم ويقولون نحن أهل حرم الله تعالى .قوله تعالى : سامرا تهجرون فيه أربع مسائل :الأولى : قوله تعالى : سامرا تهجرون سامرا نصب على الحال ، ومعناه سمارا ، وهو الجماعة يتحدثون بالليل ، مأخوذ من السمر وهو ظل القمر ؛ ومنه سمرة اللون . وكانوا يتحدثون حول الكعبة في سمر القمر ؛ فسمي التحدث به . قال الثوري : يقال لظل القمر السمر ؛ ومنه السمرة في اللون ، ويقال له : الفخت ؛ ومنه قيل فاختة . وقرأ أبو رجاء ( سمارا ) وهو جمع سامر ؛ كما قال [ امرؤ القيس ] :فقالت سباك الله إنك فاضحي ألست ترى السمار والناس أحواليوفي حديث قيلة : إذا جاء زوجها من السامر ؛ يعني من القوم الذين يسمرون بالليل ؛ فهو اسم مفرد بمعنى الجمع ، كالحاضر وهم القوم النازلون على الماء ، والباقر جمع البقر ، والجامل جمع الإبل ، ذكورتها وإناثها ؛ ومنه قوله تعالى : ثم نخرجكم طفلا أي أطفالا . يقال : قوم سمر وسمر وسامر ، ومعناه سهر الليل ؛ مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشجار من ضوء القمر . قال الجوهري : السامر أيضا السمار ، وهم القوم الذين يسمرون ؛ كما يقال للحاج حجاج ، وقول الشاعر :وسامر طال فيه اللهو والسمركأنه سمى المكان الذي يجتمع فيه للسمر بذلك . وقيل : وحد سامرا وهو بمعنى السمار ؛ لأنه وضع موضع الوقت ، كقول الشاعر :من دونهم إن جئتهم سمرا عزف القيان ومجلس غمرفقال : سمرا لأن معناه : إن جئتهم ليلا وجدتهم وهم يسمرون . وابنا سمير : الليل والنهار ؛ لأنه يسمر فيهما ، يقال : لا أفعله ما سمر ابنا سمير أبدا . ويقال : السمير الدهر ، وابناه الليل والنهار . ولا أفعله السمر والقمر ؛ أي ما دام الناس يسمرون في ليلة قمراء . ولا أفعله سمير الليالي . قال الشنفرى :هنالك لا أرجو حياة تسرني سمير الليالي مبسلا بالجرائروالسمار ( بالفتح ) اللبن الرقيق . وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث ، وهذا أوجب معرفتها بالنجوم ؛ لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب . وكانت قريش تسمر حول الكعبة مجالس في أباطيلها وكفرها ، فعابهم الله بذلك . و تهجرون قرئ بضم التاء وكسر الجيم من أهجر ، إذا نطق بالفحش . وبنصب التاء وضم الجيم من هجر المريض إذا هذى . ومعناه : يتكلمون بهوس وسيئ من القول في النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي القرآن ؛ عن ابن عباس ، وغيره .الثانية : روى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية مستكبرين به سامرا تهجرون ؛ يعني أن الله تعالى ذم أقواما يسمرون في غير طاعة الله تعالى ، إما في هذيان وإما في إذاية . وكان الأعمش يقول : إذا رأيت الشيخ ولم يكتب الحديث فاصفعه فإنه من شيوخ القمر ؛ يعني يجتمعون في ليالي القمر فيتحدثون بأيام الخلفاء والأمراء ولا يحسن أحدهم يتوضأ للصلاة .الثالثة : روى مسلم عن أبي برزة قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها . قال العلماء : أما الكراهية للنوم قبلها فلئلا يعرضها للفوات عن كل وقتها أو أفضل وقتها ؛ ولهذا قال عمر : فمن نام فلا نامت عينه ؛ ثلاثا . وممن كره النوم قبلها عمر ، وابنه عبد الله ، وابن عباس ، وغيرهم ، وهو مذهب مالك . ورخص فيه بعضهم ، منهم علي ، وأبو موسى ، وغيرهم ؛ وهو مذهب الكوفيين . وشرط بعضهم أن يجعل معه من يوقظه للصلاة . وروي عن ابن عمر مثله ، وإليه ذهب الطحاوي . وأما كراهية الحديث بعدها فلأن الصلاة قد كفرت خطاياه فينام على سلامة ، وقد ختم الكتاب صحيفته بالعبادة ؛ فإن هو سمر وتحدث فيملؤها بالهوس ويجعل خاتمتها اللغو والباطل ، وليس هذا من فعل المؤمنين . وأيضا فإن السمر في الحديث مظنة غلبة النوم آخر الليل فينام عن قيام آخر الليل ، وربما ينام عن صلاة الصبح . وقد قيل : إنما يكره السمر بعدها لما روى جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إياكم والسمر بعد هدأة الرجل فإن أحدكم لا يدري ما يبث الله تعالى من خلقه أغلقوا الأبواب ، وأوكئوا السقاء ، وخمروا الإناء ، وأطفئوا المصابيح . وروي عن عمر أنه كان يضرب الناس على الحديث بعد العشاء ، ويقول : أسمرا أول الليل ونوما آخره ! أريحوا كتابكم . حتى أنه روي عن ابن عمر أنه قال : من قرض بيت شعر بعد العشاء لم تقبل له صلاة حتى يصبح . وأسنده شداد بن أوس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد قيل : إن الحكمة في كراهية الحديث بعدها إنما هو لما أن الله تعالى جعل الليل سكنا ، أي يسكن فيه ، فإذا تحدث الإنسان فيه فقد جعله في النهار الذي هو متصرف المعاش ؛ فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله تعالى التي أجرى عليها وجوده فقال وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا .الرابعة : هذه الكراهة إنما تختص بما لا يكون من قبيل القرب ، والأذكار ، وتعليم العلم ، ومسامرة الأهل بالعلم ، وبتعليم المصالح ، وما شابه ذلك ؛ فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف ما يدل على جواز ذلك ، بل على ندبيته . وقد قال البخاري : ( باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء ) وذكر أن قرة بن خالد قال : انتظرنا الحسن وراث علينا حتى جاء قريبا من وقت قيامه ، فجاء فقال : دعانا جيراننا هؤلاء . ثم قال أنس : انتظرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة حتى كان شطر الليل فجاء فصلى ثم خطبنا فقال : إن الناس قد صلوا وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة . قال الحسن : فإن القوم لا يزالون في خير ما انتظروا الخير . قال : ( باب السمر مع الضيف والأهل ) وذكر حديث أبي بكر بن عبد الرحمن أن أصحاب الصفة كانوا فقراء . . . الحديث . أخرجه مسلم أيضا . وقد جاء في حراسة الثغور وحفظ العساكر بالليل من الثواب الجزيل ، والأجر العظيم ما هو مشهور في الأخبار . وقد مضى من ذلك جملة في آخر ( آل عمران ) والحمد لله وحده .

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا۟ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿68﴾

التفسير:

قوله تعالى : أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولينقوله تعالى : أفلم يدبروا القول يعني القرآن ؛ وهو كقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن . وسمي القرآن قولا لأنهم خوطبوا به . أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين فأنكروه وأعرضوا عنه . وقيل : أم بمعنى بل ؛ أي بل جاءهم ما لا عهد لآبائهم به ، فلذلك أنكروه وتركوا التدبر له . وقال ابن عباس : وقيل المعنى أم جاءهم أمان من العذاب ، وهو شيء لم يأت آباءهم الأولين فتركوا الأعز .

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا۟ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُۥ مُنكِرُونَ ﴿69﴾

التفسير:

قوله تعالى : أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرونهذا تستعمله العرب على معنى التوقيف والتقبيح ، فيقولون : الخير أحب إليك أم الشر ؟ أي قد أخبرت الشر فتجنبه ، وقد عرفوا رسولهم وأنه من أهل الصدق والأمانة ؛ ففي اتباعه النجاة والخير لولا العنت . قال سفيان : بلى ! قد عرفوه ولكنهم حسدوه !

أَمْ يَقُولُونَ بِهِۦ جِنَّةٌۢ ۚ بَلْ جَآءَهُم بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَٰرِهُونَ ﴿70﴾

التفسير:

قوله تعالى : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهونقوله تعالى : أم يقولون به جنة أي أم يحتجون في ترك الإيمان به بأنه مجنون ، فليس هو هكذا لزوال أمارات الجنون عنه . بل جاءهم بالحق يعني القرآن والتوحيد الحق والدين الحق . وأكثرهم أي كلهم للحق كارهون حسدا وبغيا وتقليدا .

وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَٰهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ﴿71﴾

التفسير:

قوله تعالى : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضونولو اتبع الحق الحق هنا هو الله سبحانه وتعالى ؛ قاله الأكثرون ، منهم مجاهد ، وابن جريج ، وأبو صالح ، وغيرهم . وتقديره في العربية : ولو اتبع صاحب الحق ؛ قاله النحاس . وقد قيل : هو مجاز ، أي لو وافق الحق أهواءهم ؛ فجعل موافقته اتباعا مجازا ؛ أي لو كانوا يكفرون بالرسل ويعصون الله - عز وجل - ثم لا يعاقبون ولا يجازون على ذلك إما عجزا وإما جهلا لفسدت السماوات والأرض . وقيل : المعنى ولو كان الحق ما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله تعالى لتنافت الآلهة ، وأراد بعضهم ما لا يريده بعض ، فاضطرب التدبير وفسدت السماوات والأرض ، وإذا فسدتا فسد من فيهما . وقيل : لو اتبع الحق أهواءهم أي بما يهواه الناس ويشتهونه لبطل نظام العالم ؛ لأن شهوات الناس تختلف وتتضاد ، وسبيل الحق أن يكون متبوعا ، وسبيل الناس الانقياد للحق . وقيل : الحق القرآن ؛ أي لو نزل القرآن بما يحبون لفسدت السماوات والأرض . ومن فيهن إشارة إلى من يعقل من ملائكة السماوات وإنس الأرض وجنها ؛ الماوردي . وقال الكلبي : يعني وما بينهما من خلق ؛ وهي قراءة ابن مسعود ( لفسدت السماوات والأرض وما بينهما ) فيكون على تأويل الكلبي وقراءة ابن مسعود محمولا على فساد من يعقل وما لا يعقل من حيوان وجماد . وظاهر التنزيل في قراءة الجمهور يكون محمولا على فساد ما يعقل من الحيوان ؛ لأن ما لا يعقل تابع لما يعقل في الصلاح والفساد ، فعلى هذا ما يكون من الفساد يعود على من في السماوات من الملائكة بأن جعلت أربابا وهي مربوبة ، وعبدت وهي مستعبدة . وفساد الإنس يكون على وجهين : أحدهما : باتباع الهوى ، وذلك مهلك . الثاني : بعبادة غير الله ، وذلك كفر . وأما فساد ما عدا ذلك فيكون على وجه التبع ؛ لأنهم مدبرون بذوي العقول فعاد فساد المدبرين عليهم .قوله تعالى : بل أتيناهم بذكرهم أي بما فيه شرفهم وعزهم ؛ قاله السدي ، وسفيان . وقال قتادة : أي بما لهم فيه ذكر ثوابهم وعقابهم . ابن عباس : أي ببيان الحق وذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين فهم عن ذكرهم معرضون

أَمْ تَسْـَٔلُهُمْ خَرْجًۭا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌۭ ۖ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ﴿72﴾

التفسير:

قوله تعالى : أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقينقوله تعالى : أم تسألهم خرجا أي أجرا على ما جئتهم به ؛ قال الحسن ، وغيره . فخراج ربك خير ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب ( خراجا ) بألف . الباقون بغير ألف . وكلهم قد قرءوا فخراج بالألف إلا ابن عامر ، وأبا حيوة فإنهما قرآ بغير الألف . والمعنى : أم تسألهم رزقا فرزق ربك خير . وهو خير الرازقين أي ليس يقدر أحد أن يرزق مثل رزقه ، ولا ينعم مثل إنعامه . وقيل : أي ما يؤتيك الله من الأجر على طاعتك له ، والدعاء إليه خير من عرض الدنيا ، وقد عرضوا عليك أموالهم حتى تكون كأعين رجل من قريش فلم تجبهم إلى ذلك ؛ قال معناه الحسن . والخرج والخراج واحد ، إلا أن اختلاف الكلام أحسن ؛ قاله الأخفش . وقال أبو حاتم : الخرج الجعل ، والخراج العطاء . المبرد : الخرج المصدر ، والخراج الاسم . وقال النضر بن شميل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال : الخراج ما لزمك ، والخرج ما تبرعت به . وعنه أن الخرج من الرقاب ، والخراج من الأرض . ذكر الأول الثعلبي ، والثاني الماوردي .

وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ ﴿73﴾

التفسير:

قوله تعالى : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيمقوله تعالى : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم أي إلى دين قويم . والصراط في اللغة الطريق ؛ فسمي الدين طريقا لأنه يؤدي إلى الجنة فهو طريق إليها .

وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْءَاخِرَةِ عَنِ ٱلصِّرَٰطِ لَنَٰكِبُونَ ﴿74﴾

التفسير:

وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة أي بالبعث . عن الصراط لناكبون قيل : هو مثل الأول . وقيل : إنهم عن طريق الجنة لناكبون حتى يصيروا إلى النار . نكب عن الطريق ينكب نكوبا إذا عدل عنه ومال إلى غيره ؛ ومنه نكبت الريح إذا لم تستقم على مجرى . وشر الريح النكباء .

۞ وَلَوْ رَحِمْنَٰهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّۢ لَّلَجُّوا۟ فِى طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿75﴾

التفسير:

قوله تعالى : ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهونقوله تعالى : ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر أي لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجوا في طغيانهم قال السدي : في معصيتهم . يعمهون قال الأعمش : يترددون . قال ابن جريج : ولو رحمناهم يعني في الدنيا وكشفنا ما بهم من ضر أي من قحط وجوع للجوا أي لتمادوا في طغيانهم وضلالتهم وتجاوزهم الحد يعمهون يتذبذبون ويخبطون .

وَلَقَدْ أَخَذْنَٰهُم بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُوا۟ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ﴿76﴾

التفسير:

قوله تعالى : ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعونقوله تعالى : ولقد أخذناهم بالعذاب قال الضحاك : بالجوع . وقيل : بالأمراض والحاجة والجوع . وقيل : بالقتل والجوع . فما استكانوا لربهم أي ما خضعوا . وما يتضرعون أي ما يخشعون لله - عز وجل - في الشدائد تصيبهم . قال ابن عباس : نزلت في قصة ثمامة بن أثال لما أسرته السرية ، وأسلم وخلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبيله ، حال بين مكة وبين الميرة وقال : والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأخذ الله قريشا بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز ؛ قيل وما العلهز ؟ قال : كانوا يأخذون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه . فقال له أبو سفيان : أنشدك الله والرحم ! أليس تزعم أن الله بعثك رحمة للعالمين ؟ قال : بلى . قال : فوالله ما أراك إلا قتلت الآباء بالسيف ، وقتلت الأبناء بالجوع ؛ فنزل قوله : ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون .

حَتَّىٰٓ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًۭا ذَا عَذَابٍۢ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴿77﴾

التفسير:

قوله تعالى : حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسونقوله تعالى : حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد قال عكرمة : هو باب من أبواب جهنم ، عليه من الخزنة أربعمائة ألف ، سود وجوههم ، كالحة أنيابهم ، وقد قلعت الرحمة من قلوبهم ؛ إذا بلغوه فتحه الله - عز وجل - عليهم . وقال ابن عباس : هو قتلهم بالسيف يوم بدر . مجاهد : هو القحط الذي أصابهم حتى أكلوا العلهز من الجوع ؛ على ما تقدم . وقيل فتح مكة . إذا هم فيه مبلسون أي يائسون متحيرون لا يدرون ما يصنعون ، كالآيس من الفرج ومن كل خير . وقد تقدم في ( الأنعام ) .

وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۚ قَلِيلًۭا مَّا تَشْكُرُونَ ﴿78﴾

التفسير:

قوله تعالى : وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرونقوله تعالى : وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار عرفهم كثرة نعمه وكمال قدرته . قليلا ما تشكرون أي ما تشكرون إلا شكرا قليلا . وقيل : أي لا تشكرون البتة .

وَهُوَ ٱلَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿79﴾

التفسير:

قوله تعالى : وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرونقوله تعالى : وهو الذي ذرأكم في الأرض أي أنشأكم وبثكم وخلقكم . وإليه تحشرون أي تجمعون للجزاء .

وَهُوَ ٱلَّذِى يُحْىِۦ وَيُمِيتُ وَلَهُ ٱخْتِلَٰفُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿80﴾

التفسير:

قوله تعالى : وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أي جعلهما مختلفين ؛ كقولك : لك الأجر والصلة ؛ أي إنك تؤجر وتوصل ؛ قاله الفراء . وقيل : اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر . وقيل : اختلافهما في النور والظلمة . وقيل : تكررهما يوما بعد ليلة وليلة بعد يوم . ويحتمل خامسا : اختلاف ما مضى فيهما من سعادة وشقاء وضلال وهدى .أفلا تعقلون كنه قدرته ، وربوبيته ، ووحدانيته ، وأنه لا يجوز أن يكون له شريك من خلقه ، وأنه قادر على البعث .

بَلْ قَالُوا۟ مِثْلَ مَا قَالَ ٱلْأَوَّلُونَ ﴿81﴾

التفسير:

ثم عيرهم بقولهم وأخبر عنهم أنهم " قالوا مثل ما قال الأولون "

قَالُوٓا۟ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًۭا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴿82﴾

التفسير:

هذا لا يكون ولا يتصور .

لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا هَٰذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿83﴾

التفسير:

لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل أي من قبل مجيء محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فلم نر له حقيقة . إن هذا أي ما هذا إلا أساطير الأولين أي أباطيلهم وترهاتهم ؛ وقد تقدم هذا كله .

قُل لِّمَنِ ٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿84﴾

التفسير:

قال الله تعالى قل يا محمد جوابا لهم عما قالوه لمن الأرض ومن فيها يخبر بربوبيته ، ووحدانيته ، وملكه الذي لا يزول ، وقدرته التي لا تحول ؛

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿85﴾

التفسير:

ف سيقولون لله ولا بد لهم من ذلك . ف قل أفلا تذكرون أي أفلا تتعظون وتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو على إحياء الموتى بعد موتهم قادر .

قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ ﴿86﴾

التفسير:

قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون يريد أفلا تخافون حيث تجعلون لي ما تكرهون ؛ زعمتم أن الملائكة بناتي ، وكرهتم لأنفسكم البنات .

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿87﴾

التفسير:

يريد أفلا تخافون حيث تجعلون لي ما تكرهون ; زعمتم أن الملائكة بناتي , وكرهتم لأنفسكم البنات .

قُلْ مَنۢ بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍۢ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿88﴾

التفسير:

قل من بيده ملكوت كل شيء يريد السماوات وما فوقها وما بينهن ، والأرضين وما تحتهن وما بينهن ، وما لا يعلمه أحد إلا هو . وقال مجاهد : ملكوت كل شيء خزائن كل شيء . الضحاك : ملك كل شيء . والملكوت من صفات المبالغة كالجبروت والرهبوت ؛ وقد مضى في ( الأنعام ) .وهو يجير ولا يجار عليه أي يمنع ولا يمنع منه . وقيل : يجير يؤمن من شاء . ولا يجار عليه أي لا يؤمن من أخافه . ثم قيل : هذا في الدنيا ؛ أي من أراد الله إهلاكه وخوفه لم يمنعه منه مانع ، ومن أراد نصره وأمنه لم يدفعه من نصره وأمنه دافع . وقيل : هذا في الآخرة ، أي لا يمنعه من مستحق الثواب مانع ولا يدفعه عن مستوجب العذاب دافع .

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ ﴿89﴾

التفسير:

فأنى تسحرون أي فكيف تخدعون وتصرفون عن طاعته وتوحيده . أو كيف يخيل إليكم أن تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع ! والسحر هو التخييل . وكل هذا احتجاج على العرب المقرين بالصانع وقرأ أبو عمرو ( سيقولون لله ) في الموضعين الأخيرين ؛ وهي قراءة أهل العراق . الباقون لله ، ولا خلاف في الأول أنه لله ؛ لأنه جواب ل ( قل لمن الأرض ومن فيها ) فلما تقدمت اللام في لمن رجعت في الجواب . ولا خلاف أنه مكتوب في جميع المصاحف بغير ألف . وأما من قرأ ( سيقولون لله ) فلأن السؤال بغير لام فجاء الجواب على لفظه ، وجاء في الأول لله لما كان السؤال باللام . وأما من قرأ لله باللام في الأخيرين وليس في السؤال لام فلأن معنى قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم : قل لمن السماوات السبع ورب العرش العظيم . فكان الجواب لله ؛ حين قدرت اللام في السؤال . وعلة الثالثة كعلة الثانية . وقال الشاعر :إذا قيل من رب المزالف والقرى ورب الجياد الجرد قلت لخالدأي لمن المزالف .ودلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار وإقامة الحجة عليهم . وقد تقدم في ( البقرة ) . ونبهت على أن من ابتدأ بالخلق والاختراع والإيجاد والإبداع هو المستحق للألوهية والعبادة .

بَلْ أَتَيْنَٰهُم بِٱلْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ ﴿90﴾

التفسير:

قوله تعالى : بل أتيناهم بالحق أي بالقول الصدق ، لا ما تقوله الكفار من إثبات الشريك ونفي البعث . وإنهم لكاذبون أن الملائكة بنات الله .

مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍۢ وَمَا كَانَ مَعَهُۥ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًۭا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍۭ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ ۚ سُبْحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿91﴾

التفسير:

ما اتخذ الله من ولد من صلة . وما كان معه من إله من زائدة ؛ والتقدير : ما اتخذ الله ولدا كما زعمتم ، ولا كان معه إله فيما خلق . وفي الكلام حذف ؛ والمعنى : لو كانت معه آلهة لانفرد كل إله بخلقه . ولعلا بعضهم على بعض أي ولغالب وطلب القوي الضعيف كالعادة بين الملوك ، وكان الضعيف المغلوب لا يستحق الإلهية . وهذا الذي يدل على نفي الشريك يدل على نفي الولد أيضا ؛ لأن الولد ينازع الأب في الملك منازعة الشريك .

عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿92﴾

التفسير:

سبحان الله عما يصفون تنزيها له عن الولد والشريك . عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون تنزيه وتقديس . وقرأ نافع ، وأبو بكر ، وحمزة ، والكسائي عالم بالرفع على الاستئناف ؛ أي هو عالم الغيب . الباقون بالجر على الصفة لله . وروى رويس ، عن يعقوب ( عالم ) إذا وصل خفضا . و ( عالم ) إذا ابتدأ رفعا .

قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّى مَا يُوعَدُونَ ﴿93﴾

التفسير:

قوله تعالى : قل رب إما تريني ما يوعدون ربعلمه ما يدعو به ؛ أي قل رب ، أي يا رب إن أريتني ما يوعدون من العذاب .

رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِى فِى ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴿94﴾

التفسير:

فلا تجعلني في القوم الظالمين أي في نزول العذاب بهم ، بل أخرجني منهم . وقيل : النداء معترض ؛ و ( ما ) في إما زائدة . وقيل : إن أصل إما إن ما ؛ ف ( إن ) شرط و ( ما ) شرط ، فجمع بين الشرطين توكيدا ، والجواب فلا تجعلني في القوم الظالمين ؛ أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني منهم . وكان - عليه السلام - يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب ، ومع هذا أمره الرب بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره وليكون في كل الأوقات ذاكرا لربه تعالى .

وَإِنَّا عَلَىٰٓ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَٰدِرُونَ ﴿95﴾

التفسير:

قوله تعالى : وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادروننبه على أن خلاف المعلوم مقدور ، وقد أراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف ، ونجاه الله ومن آمن به من ذلك .

ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴿96﴾

التفسير:

قوله تعالى : ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفونقوله تعالى : ادفع بالتي هي أحسن السيئة أمر بالصفح ومكارم الأخلاق ؛ فما كان منها لهذه الأمة فيما بينهم فهو محكم باق في الأمة أبدا . وما كان فيها من موادعة الكفار وترك التعرض لهم والصفح عن أمورهم فمنسوخ بالقتال . نحن أعلم بما يصفون أي من الشرك والتكذيب . وهذا يقتضي أنها آية موادعة ، والله تعالى أعلم .

وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَٰتِ ٱلشَّيَٰطِينِ ﴿97﴾

التفسير:

قوله تعالى : وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين فيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : من همزات الشياطين الهمزات هي جمع همزة . والهمز في اللغة النخس والدفع ؛ يقال : همزه ولمزه ونخسه دفعه . قال الليث : الهمز كلام من وراء القفا ، واللمز مواجهة . والشيطان يوسوس فيهمس في وسواسه في صدر ابن آدم ؛ وهو قوله : أعوذ بك من همزات الشياطين أي نزغات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى . وفي الحديث : كان يتعوذ من همز الشيطان ولمزه وهمسه . قال أبو الهيثم : إذا أسر الكلام وأخفاه فذلك الهمس من الكلام . وسمي الأسد هموسا ؛ لأنه يمشي بخفة لا يسمع صوت وطئه . وقد تقدم في ( طه ) .الثانية : أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بالتعوذ من الشيطان في همزاته ، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه ، كأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادة فلذلك اتصلت بهذه الآية . فالنزغات وسورات الغضب الواردة من الشيطان هي المتعوذ منها في الآية ؛ وقد تقدم في آخر ( الأعراف ) بيانه مستوفى ، وفي أول الكتاب أيضا . وروي عن علي بن حرب بن محمد الطائي ، حدثنا سفيان ، عن أيوب ، عن محمد بن حبان أن خالدا كان يؤرق من الليل ؛ فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأمره أن يتعوذ بكلمات الله التامة من غضب الله ، وعقابه ، ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين ، وأن يحضرون . وفي كتاب أبي داود قال عمر : وهمزه الموتة ؛ قال ابن ماجه : الموتة يعني الجنون . والتعوذ أيضا من الجنون وكيد . وفي قراءة أبي ( رب عائذا بك من همزات الشياطين وعائذا بك أن يحضرون ) ؛ أي يكونوا معي في أموري ، فإنهم إذا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز ، وإذا لم يكن حضور فلا همز . وفي صحيح مسلم ، عن جابر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه ، حتى يحضره عند طعامه ، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة ، فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان ، فإذا فرغ فليلعق أصابعه ، فإنه لا يدري في أي طعامه البركة .

وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ﴿98﴾

التفسير:

قوله تعالى : من همزات الشياطين الهمزات هي جمع همزة . والهمز في اللغة النخس والدفع ؛ يقال : همزه ولمزه ونخسه دفعه . قال الليث : الهمز كلام من وراء القفا ، واللمز مواجهة . والشيطان يوسوس فيهمس في وسواسه في صدر ابن آدم ؛ وهو قوله : أعوذ بك من همزات الشياطين أي نزغات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى . وفي الحديث : كان يتعوذ من همز الشيطان ولمزه وهمسه . قال أبو الهيثم : إذا أسر الكلام وأخفاه فذلك الهمس من الكلام . وسمي الأسد هموسا ؛ لأنه يمشي بخفة لا يسمع صوت وطئه . وقد تقدم في ( طه ) .أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بالتعوذ من الشيطان في همزاته ، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه ، كأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادة فلذلك اتصلت بهذه الآية . فالنزغات وسورات الغضب الواردة من الشيطان هي المتعوذ منها في الآية ؛ وقد تقدم في آخر ( الأعراف ) بيانه مستوفى ، وفي أول الكتاب أيضا . وروي عن علي بن حرب بن محمد الطائي ، حدثنا سفيان ، عن أيوب ، عن محمد بن حبان أن خالدا كان يؤرق من الليل ؛ فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأمره أن يتعوذ بكلمات الله التامة من غضب الله ، وعقابه ، ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين ، وأن يحضرون . وفي كتاب أبي داود قال عمر : وهمزه الموتة ؛ قال ابن ماجه : الموتة يعني الجنون . والتعوذ أيضا من الجنون وكيد . وفي قراءة أبي ( رب عائذا بك من همزات الشياطين وعائذا بك أن يحضرون ) ؛ أي يكونوا معي في أموري ، فإنهم إذا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز ، وإذا لم يكن حضور فلا همز . وفي صحيح مسلم ، عن جابر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه ، حتى يحضره عند طعامه ، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة ، فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان ، فإذا فرغ فليلعق أصابعه ، فإنه لا يدري في أي طعامه البركة .

حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ ﴿99﴾

التفسير:

قوله تعالى : حتى إذا جاء أحدهم الموت عاد الكلام إلى ذكر المشركين ؛ أي قالوا أئذا متنا إلى قوله إن هذا إلا أساطير الأولين . ثم احتج عليهم وذكرهم قدرته على كل شيء ، ثم قال هم مصرون على ذلك حتى إذا جاء أحدهم الموت تيقن ضلالته وعاين الملائكة التي تقبض روحه ؛ كما قال تعالى : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة . قال رب ارجعون تمنى الرجعة كي يعمل صالحا فيما ترك . وقد يكون القول في النفس ؛ قال الله - عز وجل - : ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول . فأما قوله ارجعون وهو مخاطب ربه - عز وجل - ولم يقل ( ارجعني ) جاء على تعظيم الذكر للمخاطب . وقيل : استغاثوا بالله - عز وجل - أولا ، فقال قائلهم : ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال : ارجعون إلى الدنيا ؛ قال ابن جريج . وقيل : إن معنى ارجعون على جهة التكرير ؛ أي أرجعني ، أرجعني ، أرجعني ، وهكذا . قال المزني في قوله تعالى ألقيا في جهنم قال : معناه ألق ألق . قال الضحاك : المراد به أهل الشرك .قلت : ليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر فقد يسألها المؤمن كما في آخر سورة المنافقين على ما يأتي . ودلت الآية على أن أحدا لا يموت حتى يعرف اضطرارا أهو من أولياء الله أم من أعداء الله ، ولولا ذلك لما سأل الرجعة ، فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقه .

لَعَلِّىٓ أَعْمَلُ صَٰلِحًۭا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّآ ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا ۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿100﴾

التفسير:

لعلي أعمل صالحا قال ابن عباس : يريد أشهد أن لا إله إلا الله . فيما تركت أي فيما ضيعت وتركت العمل به من الطاعات . وقيل فيما تركت من المال فأتصدق . و لعل تتضمن ترددا ؛ وهذا الذي يسأل الرجعة قد استيقن العذاب ، وهو يوطن نفسه على العمل الصالح قطعا من غير تردد . فالتردد يرجع إما إلى رده إلى الدنيا ، وإما إلى التوفيق ؛ أي أعمل صالحا إن وفقتني ؛ إذ ليس على قطع من وجود القدرة والتوفيق لو رد إلى الدنيا . كلا هذه كلمة رد ؛ أي ليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا ، بل هو كلام يطيح في أدراج الريح . وقيل : لو أجيب إلى ما يطلب لما وفى بما يقول ؛ كما قال : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه . وقيل : كلا إنها كلمة هو قائلها ترجع إلى الله تعالى ؛ أي لا خلف في خبره ، وقد أخبر أنه لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ، وأخبر بأن هذا الكافر لا يؤمن . وقيل : إنها كلمة هو قائلها عند الموت ، ولكن لا تنفع . ومن ورائهم برزخ أي ومن أمامهم وبين أيديهم . وقيل : من خلفهم . برزخ أي حاجز بين الموت والبعث ؛ قاله الضحاك ، ومجاهد ، وابن زيد . وعن مجاهد أيضا أن البرزخ هو الحاجز بين الموت ، والرجوع إلى الدنيا . وعن الضحاك : هو ما بين الدنيا والآخرة . ابن عباس : حجاب . السدي : أجل . قتادة : بقية الدنيا . وقيل : الإمهال إلى يوم القيامة ؛ حكاه ابن عيسى . الكلبي : هو الأجل ما بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة . وهذه الأقوال متقاربة . وكل حاجز بين شيئين فهو برزخ . قال الجوهري : البرزخ الحاجز بين الشيئين . والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث ؛ فمن مات فقد دخل في البرزخ . وقال رجل بحضرة الشعبي : رحم الله فلانا فقد صار من أهل الآخرة ! فقال : لم يصر من أهل الآخرة ، ولكنه صار من أهل البرزخ ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة . وأضيف يوم إلى يبعثون لأنه ظرف زمان ، والمراد بالإضافة المصدر .

فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَلَآ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍۢ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ ﴿101﴾

التفسير:

قوله تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلونقوله تعالى : فإذا نفخ في الصور المراد بهذا النفخ النفخة الثانية . فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون قال ابن عباس : لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا ، ولا يتساءلون فيها كما يتساءلون في الدنيا ؛ من أي قبيلة أنت ولا من أي نسب ، ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم . وعن ابن عباس أن ذلك في النفخة الأولى حين يصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . وسأل رجل ابن عباس ، عن هذه الآية وقوله : فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون فقال : لا يتساءلون في النفخة الأولى ؛ لأنه لا يبقى على الأرض حي ، فلا أنساب ولا تساؤل . وأما قوله فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون فإنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا . وقال ابن مسعود : إنما عنى في هذه الآية النفخة الثانية . وقال أبو عمر زاذان : دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخير واليمنة قد سبقوني إليه ، فناديت بأعلى صوتي : يا عبد الله بن مسعود ! من أجل أني رجل أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني ! فقال : ادنه ؛ فدنوت ، حتى ما كان بيني وبينه جليس فسمعته يقول : يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد : هذا فلان بن فلان ، من كان له حق فليأت إلى حقه ؛ فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على أبيها ، أو على زوجها ، أو على أخيها ، أو على ابنها ؛ ثم قرأ ابن مسعود : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فيقول الرب سبحانه وتعالى ( آت هؤلاء حقوقهم ) فيقول : يا رب قد فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم ؛ فيقول الرب للملائكة : ( خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته ) فإن كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل فيضاعفها الله تعالى حتى يدخله بها الجنة ، ثم قرأ ابن مسعود ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) . وإن كان شقيا قالت الملائكة : رب ! فنيت حسناته وبقي طالبون ؛ فيقول الله تعالى : ( خذوا من أعمالهم فأضيفوها إلى سيئاته وصكوا له صكا إلى جهنم ) .

فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴿102﴾

التفسير:

توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان ; فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته .

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَٰلِدُونَ ﴿103﴾

التفسير:

يؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة فيوضع في كفة الميزان فيخف وزنه حتى يقع في النار .وما أشار إليه ابن عباس قريب مما قيل : يخلق الله تعالى كل جزء من أعمال العباد جوهرا فيقع الوزن على تلك الجواهر .ورده ابن فورك وغيره .وفي الخبر ( إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صل الله عليه وسلم بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي ! ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت ؟ فيقول أنا محمد نبيك وهذه صلواتك التي كنت تصلي علي قد وفيتك أحوج ما تكون إليها ) .ذكره القشيري في تفسيره .وذكر أن البطاقة ( بكسر الباء ) رقعة فيها رقم المتاع بلغة .أهل مصر .وقال ابن ماجه : قال محمد بن يحيى : البطاقة الرقعة , وأهل مصر يقولون للرقعة بطاقة .وقال حذيفة : صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام , يقول الله تعالى : ( يا جبريل زن بينهم فرد من بعض على بعض ) .قال : وليس ثم ذهب ولا فضة ; فإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فرد على المظلوم , وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتحمل على الظالم ; فيرجع الرجل وعليه مثل الجبال .وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن الله تعالى يقول يوم القيامة يا آدم ابرز إلى جانب الكرسي عند الميزان وانظر ما يرفع إليك من أعمال بنيك فمن رجح خيره على شره مثقال حبة فله الجنة ومن رجح شره على خيره مثقال حبة فله النار حتى تعلم أني لا أعذب إلا ظالما ) .

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَٰلِحُونَ ﴿104﴾

التفسير:

قوله تعالى : تلفح وجوههم النار ويقال تنفح بمعناه ؛ ومنه ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك . إلا أن تلفح أبلغ بأسا ؛ يقال : لفحته النار والسموم بحرها أحرقته . ولفحته بالسيف لفحة إذا ضربته به خفيفة . وهم فيها كالحون قال ابن عباس : عابسون . وقال أهل اللغة : الكلوح تكشر في عبوس . والكالح : الذي قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه . قال الأعشى :وله المقدم لا مثل له ساعة الشدق عن الناب كلحوقد كلح الرجل كلوحا وكلاحا . وما أقبح كلحته ؛ يراد به الفم وما حواليه . ودهر كالح أي شديد . وعن ابن عباس أيضا وهم فيها كالحون يريد كالذي كلح وتقلصت شفتاه وسال صديده . وقال ابن مسعود : ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار ، وقد بدت أسنانه وقلصت شفتاه . وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : وهم فيها كالحون - قال : تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته قال : هذا حديث حسن صحيح غريب .

أَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴿105﴾

التفسير:

الآيات يريد بها القرآن ." تتلى عليكم " أي تقرأ .

قَالُوا۟ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًۭا ضَآلِّينَ ﴿106﴾

التفسير:

وله تعالى : قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا قراءة أهل المدينة ، وأبي عمرو ، وعاصم شقوتنا ، وقرأ الكوفيون إلا عاصما ( شقاوتنا ) . وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود ، والحسن . ويقال : شقاء وشقا ؛ بالمد والقصر . وأحسن ما قيل في معناه : غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا ؛ فسمى اللذات والأهواء شقوة ، لأنهما يؤديان إليها ، كما قال الله - عز وجل - : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ؛ لأن ذلك يؤديهم إلى النار . وقيل : ما سبق في علمك وكتب علينا في أم الكتاب من الشقاوة . وقيل : حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق .وكنا قوما ضالين أي كنا في فعلنا ضالين عن الهدى . وليس هذا اعتذار منهم إنما هو إقرار ، ويدل على ذلك قولهم

رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَٰلِمُونَ ﴿107﴾

التفسير:

ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت . فإن عدنا إلى الكفر فإنا ظالمون لأنفسنا بالعود إليه فيجابون بعد ألف سنة :

قَالَ ٱخْسَـُٔوا۟ فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴿108﴾

التفسير:

اخسئوا فيها ولا تكلمون أي ابعدوا في جهنم ؛ كما يقال للكلب : اخسأ ؛ أي ابعد . خسأت الكلب خسئا طردته . وخسأ الكلب بنفسه خسوءا ، يتعدى ولا يتعدى . وانخسأ الكلب أيضا . وذكر ابن المبارك قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة يذكره عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ، ثم يرد عليهم : إنكم ماكثون . قال : هانت والله دعوتهم على مالك ورب مالك . قال : ثم يدعون ربهم فيقولون : ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين . ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون . قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين . قال : ثم يرد عليهم اخسئوا فيها قال : فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة ، وما هو إلا الزفير والشهيق من نار جهنم فشبه أصواتهم بصوت الحمير ، أولها زفير وآخرها شهيق . خرجه الترمذي مرفوعا بمعناه من حديث أبي الدرداء . وقال قتادة : صوت الكفار في النار كصوت الحمار ، أوله زفير وآخره شهيق . وقال ابن عباس : يصير لهم نباح كنباح الكلاب . وقال محمد بن كعب القرظي : بلغني أو ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة . . . الخبر بطوله ، ذكره ابن المبارك ، وقد ذكرناه بكماله في التذكرة ، وفي آخره : ثم مكث عنهم ما شاء الله ، ثم ناداهم ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قال : فلما سمعوا صوته قالوا الآن يرحمنا ربنا فقالوا عند ذلك ربنا غلبت علينا شقوتنا أي الكتاب الذي كتب علينا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فقال عند ذلك اخسئوا فيها ولا تكلمون فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء ، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض ، وأطبقت عليهم .

إِنَّهُۥ كَانَ فَرِيقٌۭ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّٰحِمِينَ ﴿109﴾

التفسير:

الآية .قال مجاهد : هم بلال وخباب وصهيب , وفلان وفلان من ضعفاء المسلمين ; كان أبو جهل وأصحابه يهزءون بهم .

فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰٓ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴿110﴾

التفسير:

فاتخذتموهم سخريا بالضم قراءة نافع ، وحمزة ، والكسائي هاهنا وفي ( ص ) . وكسر الباقون . قال النحاس : وفرق أبو عمرو بينهما ، فجعل المكسورة من جهة التهزؤ ، والمضمومة من جهة السخرة ، ولا يعرف هذا التفريق الخليل ، ولا سيبويه ، ولا الكسائي ، ولا الفراء . قال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد ؛ كما يقال : عصي وعصي ، ولجي ولجي . وحكى الثعلبي ، عن الكسائي ، والفراء الفرق الذي ذكره أبو عمرو ، وأن الكسر بمعنى الاستهزاء والسخرية بالقول ، والضم بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل . وقال المبرد : إنما يؤخذ التفريق بين المعاني عن العرب ، وأما التأويل فلا يكون . والكسر في سخري في المعنيين جميعا ؛ لأن الضمة تستثقل في مثل هذا . حتى أنسوكم ذكري أي اشتغلتم بالاستهزاء بهم عن ذكري . وكنتم منهم تضحكون استهزاء بهم ، وأضاف الإنساء إلى المؤمنين لأنهم كانوا سببا لاشتغالهم عن ذكره ؛ وتعدي شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم .

إِنِّى جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوٓا۟ أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ ﴿111﴾

التفسير:

إني جزيتهم اليوم بما صبروا على أذاكم ، وصبروا على طاعتي . أنهم هم الفائزون قرأ حمزة ، والكسائي بكسر الهمزة على ابتداء المدح من الله تعالى لهم ، وفتح الباقون ؛ أي لأنهم هم الفائزون . ويجوز نصبه بوقوع الجزاء عليه ، تقديره : إني جزيتهم اليوم الفوز بالجنة .قلت : وينظر إلى معنى هذا قوله تعالى في آخر المطففين : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون إلى آخر السورة ، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى . ويستفاد من هذا : التحذير من السخرية ، والاستهزاء بالضعفاء والمساكين ، والاحتقار لهم ، والإزراء عليهم ، والاشتغال بهم فيما لا يغني ، وأن ذلك مبعد من الله - عز وجل - .

قَٰلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى ٱلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ﴿112﴾

التفسير:

قوله تعالى : قال كم لبثتم في الأرض عدد سنينقوله تعالى : قال كم لبثتم في الأرض قيل : يعني في القبور . وقيل : هو سؤال لهم عن مدة حياتهم في الدنيا . وهذا السؤال للمشركين في عرصات القيامة أو في النار . عدد سنين بفتح النون على أنه جمع مسلم ، ومن العرب من يخفضها وينونها .

قَالُوا۟ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍۢ فَسْـَٔلِ ٱلْعَآدِّينَ ﴿113﴾

التفسير:

قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم أنساهم شدة العذاب مدة مكثهم في القبور . وقيل : لأن العذاب رفع عنهم بين النفختين فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم . قال ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى الثانية ؛ وذلك أنه ليس من أحد قتله نبي ، أو قتل نبيا أو مات بحضرة نبي إلا عذب من ساعة يموت إلى النفخة الأولى ، ثم يمسك عنه العذاب فيكون كالماء حتى ينفخ الثانية . وقيل : استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي القبور ، ورأوه يسيرا بالنسبة إلى ما هم بصدده . فاسأل العادين أي سل الحساب الذين يعرفون ذلك فإنا قد نسيناه ، أو فاسأل الملائكة الذين كانوا معنا في الدنيا ؛ الأول قول قتادة ، والثاني قول مجاهد ، وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي قل كم لبثتم في الأرض على الأمر . ويحتمل ثلاثة معان : أحدها : قولوا كم لبثتم ؛ فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد الجماعة ؛ إذ كان المعنى مفهوما . الثاني : أن يكون أمرا للملك ليسألهم يوم البعث عن قدر مكثهم في الدنيا . أو أراد قل أيها الكافر كم لبثتم ، وهو الثالث . الباقون قال كم على الخبر ؛ أي قال الله تعالى لهم ، أو قالت الملائكة لهم كم لبثتم . وقرأ حمزة ، والكسائي أيضا

قَٰلَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًۭا ۖ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿114﴾

التفسير:

( قال إن لبثتم إلا قليلا ) الباقون قال على الخبر ، على ما ذكر من التأويل في الأول ؛ أي ما لبثتم في الأرض إلا قليلا ؛ وذلك أن مكثهم في القبور وإن طال كان متناهيا . وقيل : هو قليل بالنسبة إلى مكثهم في النار ؛ لأنه لا نهاية له . لو أنكم كنتم تعلمون ذلك .

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًۭا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴿115﴾

التفسير:

قوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعونقوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا أي مهملين كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها ؛ مثل قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى يريد كالبهائم مهملا لغير فائدة . قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي : إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه ، فيثيبهم على العبادة ويعاقبهم على تركها ، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رق الدنيا ، ملوك في دار الإسلام ؛ وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أباق سقاط لئام ، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران . و ( عبثا ) نصب على الحال عند سيبويه وقطرب . وقال أبو عبيدة : هو نصب على المصدر أو لأنه مفعول له . وأنكم إلينا لا ترجعون فتجازون بأعمالكم . قرأ حمزة ، والكسائي ترجعون بفتح التاء وكسر الجيم من الرجوع .

فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ ۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ ﴿116﴾

التفسير:

قوله تعالى : فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريمقوله تعالى : فتعالى الله الملك الحق أي تنزه وتقدس الله الملك الحق عن الأولاد والشركاء والأنداد ، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها ؛ لأنه الحكيم . لا إله إلا هو رب العرش الكريم ليس في القرآن غيرها . وقرأ ابن محيصن وروي عن ابن كثير ( الكريم ) بالرفع نعتا لله .

وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرْهَٰنَ لَهُۥ بِهِۦ فَإِنَّمَا حِسَابُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦٓ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلْكَٰفِرُونَ ﴿117﴾

التفسير:

قوله تعالى : ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به أي لا حجة له عليه فإنما حسابه عند ربه أي هو يعاقبه ويحاسبه . ( إنه ) الهاء ضمير الأمر والشأن . إنه لا يفلح الكافرون وقرأ الحسن وقتادة لا يفلح - بالفتح - من كذب وجحد ما جئت به وكفر نعمتي .

وَقُل رَّبِّ ٱغْفِرْ وَٱرْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّٰحِمِينَ ﴿118﴾

التفسير:

ثم أمر نبيه - عليه الصلاة والسلام - بالاستغفار لتقتدي به الأمة . وقيل : أمره بالاستغفار لأمته . وأسند الثعلبي من حديث ابن لهيعة ، عن عبد الله بن هبيرة ، عن حنش بن عبد الله الصنعاني ، عن عبد الله بن مسعود أنه مر بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا حتى ختم السورة فبرأ . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ماذا قرأت في أذنه ؟ فأخبره ، فقال : والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال .

مشغل القرآن
لا يوجد سورة محددة

-

00:00 / 00:00
إحصائيات المنتدى
عدد المواضيع في المنتدى 1,424
عدد المشاركات في المنتدى 0
عدد الاعضاء في الموقع 9
المستخدمين المتصلين 0
آخر عضو مسجل Richard Edward
الأعضاء المتصلون
المجموع: 0 عضو متصل