بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ حمٓ ﴿1﴾
التفسير:
مقدمة وتمهيد1- سورة «الجاثية» هي السورة الخامسة والأربعون في ترتيب المصحف. وكان نزولها بعد سورة «الدخان» . وعدد آياتها سبع وثلاثون آية في المصحف الكوفي، وست وثلاثون في غيره، لاختلافهم في قوله- تعالى- حم، هل هو آية مستقلة أولا.2- وقد افتتحت هذه السورة بالثناء على القرآن الكريم، وبدعوة الناس إلى التدبر والتأمل في هذا الكون العجيب، وما اشتمل عليه من سموات وأرض، ومن ليل ونهار، ومن أمطار ورياح.. فإن هذا التأمل من شأنه أن يهدى إلى الحق، وإلى أن لهذا الكون إلها واحدا قادرا حكيما، هو الله رب العالمين.قال- تعالى-: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.3- ثم توعد- سبحانه- بعد ذلك الأفاكين بأشد أنواع العذاب، لإصرارهم على كفرهم، واتخاذهم آيات الله هزوا.قال- تعالى-: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.4- ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان جانب من نعم الله- تعالى- على خلقه، تلك النعم التي تتمثل في البحر وما اشتمل عليه من خيرات، وفي السموات والأرض وما فيهما من منافع.قال- سبحانه-: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.5- ثم بين- سبحانه- موقف بنى إسرائيل من نعم الله- تعالى-، وكيف أنهم قابلوا ذلك بالاختلاف والبغي، ونهى- سبحانه- نبيه صلّى الله عليه وسلّم عن الاستماع إليهم، وبين أنه لا يستوي عنده- عز وجل- الذين اجترحوا السيئات، والذين عملوا الصالحات.فقال- تعالى-: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ، أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ. وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.ثم حكى بعض الأقوال الباطلة التي تفوه بها الكافرون، ورد عليها بما يزهقها ويثبت كذبها، قال- تعالى-: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ، وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.6- ثم أخذت السورة الكريمة في أواخرها، في بيان أهوال يوم القيامة، وفي بيان عاقبة الأخيار وعاقبة الأشرار.قال- تعالى-: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ.7- ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بالثناء على ذاته بما هو أهله، فقال- تعالى-: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ، رَبِّ الْعالَمِينَ، وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.هذا، والمتدبر في هذه السورة الكريمة، يراها تدعو الناس إلى التفكر فيما اشتمل عليه هذا الكون من آيات دالة على وحدانية الله- تعالى- وكمال قدرته، كما أنه يراها تحكى بشيء من التفصيل أقوال المشركين وترد عليها، وتبين سوء عاقبتهم كما يراها تسوق ألوانا من نعم الله على خلقه، وتدعو المؤمنين إلى التمسك بكتاب ربهم، وتبشرهم بأنهم متى فعلوا ذلك ظفروا برضوان الله تعالى وثوابه.فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته، ذلك هو الفوز المبين، كما يراها تهتم بتفصيل الحديث عن أهوال يوم القيامة، لكي يفيء الناس إلى رشدهم، ويستعدوا لاستقبال هذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح.قال- تعالى-: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.نسأل الله- تعالى- أن ينجينا من أهوال هذا اليوم، وأن يحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ذلك الفضل من الله، وكفى بالله عليما.وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.سورة " الجاثية " من السور التى افتتحت ببعض حروف التهجى ، وقد سبق أن قلنا ، إن هذه الحروف الرأى الراجح فى معناها ، أنها سيقت للتنبيه على إعجاز القرآن ، وعلى أنه من عند الله - عز وجل - .
تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ ﴿2﴾
التفسير:
وقوله- سبحانه-: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ بيان لمصدر هذا القرآن، وأنه من عند الله- تعالى- لا من عند غيره.أى: هذا القرآن من الله- تعالى- صاحب العزة التي لا عزة سواها، وصاحب الحكمة التي لا تقاربها حكمة، فهو- سبحانه- القاهر فوق عباده وهو الحكيم في كل تصرفاته.
إِنَّ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ لَءَايَٰتٍۢ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿3﴾
التفسير:
ثم ساق- سبحانه- ستة أدلة على وحدانيته، وكمال قدرته، وجلال عظمته ويتمثل الدليل الأول في قوله- تعالى-: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ أى: إن في خلق هذه السموات المزينة بالمصابيح، والتي لا ترى فيه من تفاوت، والمرفوعة بغير عمد ... وفي خلق الأرض الممهدة المفروشة المثبتة بالجبال.. في كل ذلك لبراهين ساطعة للمؤمنين، على أن الخالق لهما هو الله- تعالى- وحده، المستحق للعبادة والطاعة.فالمراد بقوله- تعالى-: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. أى: إن في خلقهما، كما صرح- سبحانه- بذلك في آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ .والمراد بالآيات: الدلائل والبراهين الدالة على قدرته- سبحانه- ووحدانيته.
وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٌۭ لِّقَوْمٍۢ يُوقِنُونَ ﴿4﴾
التفسير:
والدليل الثاني والثالث قوله- تعالى-: وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.قوله: وَفِي خَلْقِكُمْ جار ومجرور خبر مقدم، وقوله: آياتٌ مبتدأ مؤخر.أى: وفي خلقكم- أيها الناس- من نطفة، فعلقة، فمضغة.. إلى أن نخرجكم من بطون أمهاتكم.. وفيما نبثه وننشره ونوجده من دواب لا تعد ولا تحصى على ظهر الأرض.في كل ذلك آياتٌ بينات، وعلامات واضحات، على كمال قدرتنا، لقوم يوقنون بأن القادر على هذا الخلق، إنما هو الله- تعالى- وحده.
وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن رِّزْقٍۢ فَأَحْيَا بِهِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ ءَايَٰتٌۭ لِّقَوْمٍۢ يَعْقِلُونَ ﴿5﴾
التفسير:
والدليل الرابع قوله- تعالى-: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ.. والمراد باختلافهما:تفاوتهما طولا وقصرا، وتعاقبهما دون أن يسبق أحدهما الآخر كما قال- تعالى-:لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ .وكون الليل والنهار يسيران على هذا النظام الدقيق المطرد الذي لا ينخرم، دليل على أن هذا الاختلاف، تدبير من إله قادر حكيم، لا يدخل أفعاله تفاوت أو اختلال.والدليل الخامس قوله- تعالى-: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها.وقوله: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ.. معطوف على اخْتِلافِ، والمراد من السماء: جهة العلو.والمراد بالرزق: المطر الذي ينزل من السحاب، وسمى رزقا لأن المطر سبب لأرزاق العباد.أى: ومن الآيات الدالة على قدرته- سبحانه-: إنزاله المطر من السماء فينزل على الأرض، فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج، بعد أن كانت جدباء هامدة.وأما الدليل السادس فهو قوله- تعالى-: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ: والمراد بتصريفها:تقليبها في الجهات المختلفة، ونقلها من حال إلى حال، وتوجيهها على حسب مشيئته- سبحانه-، فتارة تراها حارة، وتارة تراها باردة.أى: ومن الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته، تقليبه- سبحانه- للرياح كما يشاء ويختار.وفي ذلك الذي بيناه لكم آياتٌ واضحات على قدرتنا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ذلك.قال الجمل في حاشيته: وحاصل ما ذكر هنا من الدلائل ستة، على ثلاث فواصل: الأولى لِلْمُؤْمِنِينَ، والثانية يُوقِنُونَ، والثالثة، يَعْقِلُونَ.ووجه التغاير بينها، أن المنصف من نفسه إذا نظر في السموات والأرض وأنه لا بد لهما من صانع آمن، وإذا نظر في خلق نفسه ونحوها، ازداد إيمانا فأيقن. وإذا نظر في سائر الحوادث عقل واستحكم علمه، فاختلاف الفواصل الثلاث، لاختلاف الآيات في الدقة والظهور .وما ذكر في هذه الآيات الكريمة من أدلة ساطعة على قدرة الله ووحدانيته جاء في آيات كثيرة، من أجمعها قوله- تعالى-: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .وبعد أن ذكر- سبحانه- هذه الأدلة الكونية الساطعة التي تحمل الناس على إخلاص العبادة له وحده، أتبع ذلك بتهديد الذين عموا عنها، والذين اتخذوا آيات الله هزوا..فقال- تعالى-:
تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ ۖ فَبِأَىِّ حَدِيثٍۭ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ يُؤْمِنُونَ ﴿6﴾
التفسير:
والمراد بالآيات في قوله- سبحانه-: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ.. آيات القرآن الكريم، كما في قوله- تعالى-: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ .وتِلْكَ مبتدأ، وآياتُ اللَّهِ خبر ونَتْلُوها عَلَيْكَ حال عاملها ما دل عليه تِلْكَ من معنى الإشارة.وقوله بِالْحَقِّ حال من فاعل نَتْلُوها أو من مفعوله، أى: نتلوها محقين، أو ملتبسة بالحق.أى: تلك- أيها الرسول الكريم- آيات الله- تعالى- المنزلة إليك، نتلوها عليك تلاوة ملتبسة بالحق الذي لا يحوم حوله باطل.وكانت الإشارة للبعيد، لما في ذلك من معنى الاستقصاء للآيات، ولعلو شأنها، وكمال معانيها، والوفاء في مقاصدها.وأضاف- سبحانه- الآيات إليه، لأنه هو الذي أنزلها على نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وفي هذه الإضافة ما فيها من التشريف لها، والسمو لمنزلتها.وجعل- سبحانه- تلاوة جبريل للقرآن تلاوة له، للإشعار بشرف جبريل، وأنه ما خرج في تلاوته عما أمره الله- تعالى- به، فهو رسوله الأمين، إلى رسله المكرمين.وقوله- سبحانه-: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ تعجيب من حالهم، حيث أصر هؤلاء الكافرون على كفرهم، مع وضوح البراهين والأدلة على بطلان ذلك.أى: فبأى حديث بعد آيات الله المتلوة عليك يؤمن هؤلاء الجاهلون؟ إن عدم إيمانهم بعد ظهور الأدلة والبراهين على وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، دليل على انطماس بصائرهم، واستيلاء العناد والجحود على قلوبهم.قال الآلوسى: وقوله: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ هو من باب قولهم:أعجبنى زيد وكرمه، يريدون أعجبنى كرم زيد، إلا أنهم عدلوا عنه للمبالغة في الإعجاب.أى: فبأى حديث بعد هذه الآيات المتلوة بالحق يؤمنون، وفيه دلالة على أنه لا بيان أزيد من هذا البيان، ولا آية أدل من هذه الآية.وقال الواحدي: فبأى حديث بعد حديث الله، أى: القرآن، وقد جاء إطلاقه عليه في قوله- تعالى-: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ.. وحسن الإضمار لقرينة تقدم الحديث.وقوله وَآياتِهِ عطف عليه لتغايرهما إجمالا وتفصيلا.. والفاء في جواب شرط مقدر، والظرف صفة حَدِيثٍ .
وَيْلٌۭ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍۢ ﴿7﴾
التفسير:
ثم هدد- تعالى- هؤلاء المشركين بقوله: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ.والويل: لفظ يدل على الشر أو الهلاك. وهو مصدر لا فعل له من لفظه، وقد يستعمل بدون حرف النداء كما هنا، وقد يستعمل معه كما في قوله- تعالى-: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا.والأفاك: هو الإنسان الكثير الإفك وهو أشنع الكذب وأقبحه.والأثيم: هو الإنسان المرتكب للذنوب والآثام بقلبه وجوارحه، فهو سيئ الظاهر وسيئ الباطن.أى: هلاك وعذاب وحسرة يوم القيامة لكل إنسان ينطق بأقبح الأكاذيب ويفعل أسوأ السيئات.
يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًۭا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍۢ ﴿8﴾
التفسير:
هذا الإنسان- أيضا- من صفاته أنه يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ صباح مساء.ثُمَّ بعد ذلك يُصِرُّ على كفره مُسْتَكْبِراً أى: متكبرا عن الإيمان.كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أى: كأنه لم يسمع هذه الآيات، لأنها لم توافق هواه أو شهواته.والتعبير بقوله: ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً للتعجيب من حاله، حيث يصر على كفره، بعد سماع ما يدعو إلى التخلي عن الكفر، ويحمل على الدخول في الإيمان.والإصرار على الشيء: ملازمته، وعدم الانفكاك عنه، مأخوذ من الصر- بفتح الصاد- وهو الشد، ومنه صرة الدراهم، لأنها مشدودة على ما بداخلها.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى ثُمَّ في قوله: ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً؟قلت: كمعناه في قول القائل، يرى غمرات الموت ثم يزورها.وذلك أن غمرات الموت خليقة بأن ينجو رائيها بنفسه، ويطلب الفرار عنها.وأما زيارتها والإقدام على مزاولتها، فأمر مستبعد، فمعنى ثُمَّ: الإيذان بأن فعل المقدم عليها بعد ما رآها وعاينها، شيء يستبعد في الغايات والطباع.وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق، من تليت عليه وسمعها: كان مستبعدا في العقول إصراره على الضلالة عندها، واستكباره عن الإيمان بها .وقوله- تعالى-: فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ تهكم بهذا الأفاك الأثيم.. واستهزاء به، لأن البشارة في الأصل إنما تكون من أجل الخبر السار، الذي تتهلل له البشرة.أى: فبشره بعذاب أليم، بسبب إصراره على كفره، واستحبابه العمى على الهدى.
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْـًٔا ٱتَّخَذَهَا هُزُوًا ۚ أُو۟لَٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌۭ مُّهِينٌۭ ﴿9﴾
التفسير:
ثم بين- سبحانه- صفة أخرى من صفات هذا الأفاك الأثيم فقال: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً.أى: وإذا بلغ هذا الإنسان شيء من آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا، بادر إلى الاستهزاء بها والسخرية منها، ولم يكتف بالاستهزاء بما سمعه، بل استهزأ بالآيات كلها لرسوخه في الكفر والجحود.والتعبير بقوله: وَإِذا عَلِمَ زيادة في تحقيره وتجهيله، لأن اتخاذه الآيات هزوا بعد علمه بمصدرها، يدل على إيغاله في العناد والضلال.وقوله: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ بيان لسوء عاقبته. أى: أولئك الذين يفعلون ذلك لهم في الآخرة عذاب يهينهم ويذلهم، ويجعلهم محل سخرية العقلاء واحتقارهم.
مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ ۖ وَلَا يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُوا۟ شَيْـًۭٔا وَلَا مَا ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿10﴾
التفسير:
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أى: من قدامهم جهنم لأنهم يوجهون إليها بعد موتهم، أو هي من خلفهم لأنهم معرضون عنها، ومهملون لما يبعدهم عن دخولها.والوراء: اسم يستعمل بمعنى الأمام والخلف، لأنه يطلق على الجهة التي يواريها الشخص، فتعم الخلف والأمام.وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً أى: ولا يدفع عنهم ما كسبوه في الدنيا من أموال شيئا من العذاب، ولو كان هذا الشيء يسيرا، كما قال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ.فقوله وَلا يُغْنِي من الغناء- بفتح الغين- بمعنى الدفع والنفع، ومنه قول الشاعر:وقل غناء عنك مال جمعته ... إذا صار ميراثا وواراك لاحدوَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أى: ولا يغنى عنهم- أيضا- ما اتخذوه من دون الله- تعالى- من معبودات باطلة.وما في قوله ما كَسَبُوا ومَا اتَّخَذُوا موصولة والعائد محذوف. ويصح أن تكون في الموضعين مصدرية.وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يعلم مقدار شدته وهوله إلا الله- تعالى- وحده.
هَٰذَا هُدًۭى ۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌۭ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴿11﴾
التفسير:
والإشارة في قوله- تعالى- هذا هُدىً تعود إلى القرآن الكريم. والهدى مصدر هداه إلى الشيء إذا دله وأرشده إليه.أى. هذا القرآن الذي أوحيناه إليك يا محمد، في أعلى درجات الهداية وأكملها.وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ الدالة على وجوب إخلاص العبادة له.لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ والرجز: يطلق على أشد أنواع العذاب..أى: لهم أشد أنواع العذاب، وأكثره إيلاما وإهانة.وجمهور القراء قرأ أَلِيمٌ بالخفض على أنه نعت لقوله رِجْزٍ وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم أَلِيمٌ بالرفع، على أنه صفة لعذاب.وهذه الآيات تهديد لكل من كانت فيه هذه الصفات التي منها: كثرة الكذب، وكثرة اقتراف السيئات، والإصرار على الباطل.. ويدخل في هذا التهديد دخولا أوليا، النضر بن الحارث، الذي كان يشترى أحاديث الأعاجم ليشغل بها الناس عن سماع القرآن، والذي قيل إن هذه الآيات قد نزلت فيه.ثم انتقلت السورة الكريمة بعد هذا التهديد الشديد للأفاكين.. إلى بيان جانب من النعم التي أنعم بها- سبحانه- على عباده، ودعت المؤمنين إلى الصبر والصفح، فقال- تعالى-:
۞ ٱللَّهُ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِىَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِۦ وَلِتَبْتَغُوا۟ مِن فَضْلِهِۦ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿12﴾
التفسير:
وقوله- تعالى- سَخَّرَ من التسخير بمعنى التذليل والتيسير. يقال: سخر الله- تعالى- الإبل للإنسان، إذا ذللها له، وجعلها منقادة لأمره.أى: الله- تعالى- وحده، هو الذي بقدرته ورحمته سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ بأن جعلكم متمكنين من الانتفاع بخيراته، وبأن جعله على هذه الصفة التي تستطيعون منها استخراج ما فيه من خيرات.وقوله: لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.. بيان لبعض الأسباب التي من أجلها سخر الله- تعالى- البحر على هذه الصفة.أى: جعل لكم البحر على هذه الصفة، لكي تتمكن السفن من الجري فيه بأمره- تعالى- وقدرته، ولتطلبوا ما فيه من خيرات، تارة عن طريق استخراج ما فيه من كنوز، وتارة عن طريق التجارة فيها.. وكل ذلك بتيسير الله- تعالى- وفضله ورحمته بكم.وقوله: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ متعلق بمحذوف. أى: أعطاكم ما أعطاكم من النعم، وجعل البحر على صفة تتمكنون معها من الجري فيه وأنتم في سفنكم، ومن استخراج ما فيه من خيرات.. لعلكم بعد ذلك تشكرون الله- تعالى- على هذه النعم، وتستعملونها فيما خلقت من أجله.
وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًۭا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ ﴿13﴾
التفسير:
وقوله- تعالى-: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ.. تعميم بعد تخصيص.أى: يسر لكم الانتفاع بما في البحر من خيرات، ويسر لكم- أيضا- الانتفاع بكل ما في السموات والأرض من نعم لا تعد ولا تحصى، وكلها منه- تعالى- وحده، لا من أحد سواه.فقوله: جَمِيعاً حال من وَما فِي الْأَرْضِ، أو تأكيد له. والضمير في قوله- تعالى- مِنْهُ يعود إلى الله- عز وجل-، والجار والمجرور حال من ما أيضا، أى: جميعا كائنا منه- تعالى- لا من غيره.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى مِنْهُ في قوله: جَمِيعاً مِنْهُ؟ وما موقعها من الإعراب؟.قلت: هي واقعة موقع الحال. والمعنى: أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده. يعنى أنه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته، ثم سخرها لخلقه. ويجوز أن يكون خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي جميعا منه .إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من تسخير البحر وما في السموات والأرض لكم لَآياتٍ ساطعات، وعلامات واضحات، ودلائل بينات، على وحدانية الله- تعالى- وقدرته وفضله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في هذه النعم، ويحسنون شكرها.وخص المتفكرين بالذكر، لأنهم هم الذين ينتفعون بما بين أيديهم من نعم، إذ بالتفكر السليم ينتقل العاقل من مرحلة الظن، إلى مرحلة اليقين، التي يجزم معها بأن المستحق للعبادة والحمد، إنما هو الله رب العالمين.
قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ يَغْفِرُوا۟ لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِىَ قَوْمًۢا بِمَا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ ﴿14﴾
التفسير:
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يحض المؤمنين على التجاوز والصفح، عما يصدر من المشركين من كلمات بذيئة، ومن أفعال قبيحة، حتى يأتى الله بأمره.. فقال- تعالى-:قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ.وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها: ما روى عن ابن عباس أنها نزلت في عمر بن الخطاب، شتمه مشرك بمكة قبل الهجرة فهمّ أن يبطش به، فنزلت .ومقول القول محذوف لأن الجواب دال عليه. والرجاء هنا: بمعنى الخوف. والمراد بأيام الله: وقائعه بأعدائه.أى: قل- أيها الرسول الكريم- لأتباعك المؤمنين، على سبيل النصح والإرشاد، قل لهم: اغفروا يغفروا للمشركين الذين لا يخافون من وقائع الله ونقمته بأعدائه، ولا يتوقعون أن هناك عذابا شديدا سينتظرهم، وأن هناك ثوابا عظيما سينتظر المؤمنين.فالآية الكريمة توجيه حكيم للمؤمنين إلى التسامح والصبر على كيد أعدائهم، حتى يأتى الله- تعالى- بأمره، الذي فيه النصر للمؤمنين، والخسران للكافرين.وقوله- سبحانه-: لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ علة للأمر بالصفح والمغفرة، وهو متعلق بما قبله، والمراد بالقوم: المؤمنون الذين أمروا بالتسامح والعفو.. والتنكير في لفظ قَوْماً للتعظيم.أى: أمر الله المؤمنين بذلك، ليجزيهم يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الصالحة، التي منها الصبر على أذى أعدائهم، والإغضاء عنهم، واحتمال المكروه منهم.قال صاحب الكشاف: قوله: لِيَجْزِيَ قَوْماً تعليل للأمر بالمغفرة أى إنما أمروا بأن يغفروا، لما أراده الله من توفيتهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة.فإن قلت: قوله: قَوْماً ما وجه تنكيره، وإنما أراد الذين آمنوا وهم معارف؟قلت: هو مدح لهم وثناء عليهم، كأنه قيل: ليجزي أيما قوم. أو قوما مخصوصين، لصبرهم وإغضائهم على أعدائهم من الكفار، وعلى ما كانوا يجرعونهم من الغصص .
مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًۭا فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ۖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴿15﴾
التفسير:
ثم عقب- سبحانه- على ذلك بما يؤكد عدالة الجزاء، واحتمال كل نفس لما تعمله فقال:مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها.أى: من عمل عملا صالحا، فثواب هذا العمل يعود إلى نفسه، ومن عمل عملا سيئا فعقاب هذا العمل يعود عليها- أيضا-.ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ يوم القيامة فترون ذلك رأى العين، وتشاهدون أن كل إنسان سوف يجازى على حسب عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعم الله- سبحانه- على بنى إسرائيل، وعن موقفهم منها، وأمرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتمسك بالشريعة التي أنزلها الله- سبحانه- عليه.. فقال:
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ ﴿16﴾
التفسير:
والمراد بإسرائيل: يعقوب- عليه السلام- وببنيه: ذريته من بعده. والمراد بالكتاب:التوراة- أو جنس الكتاب فيشمل التوراة والإنجيل والزبور.أى: والله لقد أعطينا بنى إسرائيل الْكِتابَ ليكون هداية لهم، وآتيناهم- أيضا- الْحُكْمَ أى: الفقه والفهم للأحكام حتى يتمكنوا من القضاء بين الناس، وأعطيناهم كذلك النُّبُوَّةَ بأن جعلنا عددا كبيرا من الأنبياء فيهم ومنهم.وهكذا منحهم- سبحانه- نعما عظمى تتعلق بدينهم، أما النعم التي تتعلق بدنياهم فقد بينها- سبحانه- في قوله: وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أى: ورزقناهم من المطاعم والمشارب الطيبات التي جعلناها حلالا لهم.وقوله: وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ بيان لنعمة أخرى. وللمفسرين في معنى هذه الجملة اتجاهان: أحدهما: أن المقصود بها فضلناهم على العالمين بأمور معينة حيث جعلنا عددا من الأنبياء منهم، وأنزلنا المن والسلوى عليهم.قال الآلوسى: قوله: وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم من فلق البحر، وإضلال الغمام، ونظائرهما، فالمراد تفضيلهم على العالمين مطلقا من بعض الوجوه، لا من كلها، ولا من جهة المرتبة والثواب فلا ينافي ذلك تفضيل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم عليهم من وجه آخر، ومن جهة المرتبة والثواب .والثاني: أن المقصود بها: فضلناهم على عالمي زمانهم.قال الإمام الرازي، ما ملخصه: فإن قيل إن تفضيلهم على العالمين، يقتضى تفضيلهم على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وهذا باطل، فكيف الجواب؟قلنا: الجواب من وجوه أقربها إلى الصواب أن المراد: فضلتكم على عالمي زمانكم، وذلك لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك وهو الآن ليس بموجود، لم يكن من جملة العالمين حال عدمه، وأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لم تكن موجودة في ذلك الوقت، فلا يلزم من كون بنى إسرائيل أفضل العالمين في ذلك الوقت، أنهم أفضل من الأمة الإسلامية. .وقال الشيخ الشنقيطى ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ.ذكر- سبحانه- في هذه الآية أنه فضل بنى إسرائيل على العالمين، كما ذكر ذلك في آيات أخرى.. ولكن الله- تعالى- بين أن أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم خير من بنى إسرائيل، وأكرم على الله، كما صرح بذلك في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.فخير صيغة تفضيل، والآية نص صريح في أنهم خير من جميع الأمم، بنى إسرائيل وغيرهم.ويؤيد ذلك من حديث معاوية بن حيدة القشيري، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في أمته: أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله، وقد رواه عنه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وهو حديث مشهور.واعلم أن ما ذكرنا من كون الأمة الإسلامية أفضل من بنى إسرائيل وغيرهم، لا يعارض ما ورد من آيات في تفضيل بنى إسرائيل.لأن ذلك التفضيل الوارد في بنى إسرائيل، ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم والمعدوم في حال عدمه ليس بشيء حتى يفضل على غيره، أو يفضل غيره عليه.ولكنه- تعالى- بعد وجود الأمة الإسلامية صرح بأنها خير الأمم، فثبت أن كل ما جاء في القرآن من تفضيل بنى إسرائيل، إنما يراد به ذكر أحوال سابقةوهذا الاتجاه الثاني هو الذي نرجحه، لأن المقصود بالآية الكريمة وأمثالها تذكير بنى إسرائيل المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم بنعم الله عليهم وعلى آبائهم، حتى يشكروه عليها.ومن مظاهر هذا الشكر- بل على رأسه- إيمانهم بما جاءهم به النبي صلّى الله عليه وسلّم.ولكن بنى إسرائيل لم يقابلوا تلك النعم بالشكر، بل قابلوها بالجحود والحسد للنبي صلّى الله عليه وسلّم على ما آتاه الله- تعالى- من فضله، فكانت نتيجة ذلك أن لعنهم الله وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.ولقد سبق أن قلنا عند تفسيرنا لقوله- تعالى- في سورة البقرة: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ.والعبرة التي نستخلصها من هذه الآية وأمثالها: أن الله- تعالى- فضل بنى إسرائيل على غيرهم من الأمم السابقة على الأمة الإسلامية، ومنحهم الكثير من النعم ولكنهم لم يقابلوا ذلك بالشكر.. فسلب الله عنهم ما حباهم به من نعم. ووصفهم في كتابه بنقض العهد، وقسوة القلب.وهذا مصير كل أمة بدلت نعمة الله كفرا، لأن الميزان عند الله للتقوى والفعل الصالح، وليس للجنس أو اللون أو النسب .
وَءَاتَيْنَٰهُم بَيِّنَٰتٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْرِ ۖ فَمَا ٱخْتَلَفُوٓا۟ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُوا۟ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿17﴾
التفسير:
ثم بين- سبحانه- نعمة أخرى من النعم التي أنعم بها على بنى إسرائيل فقال:وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ والبينات جمع بينة، وهي الدليل الواضح الصريح.ومِنَ بمعنى في.أى: وأعطيناهم- فضلا عن كل ما سبق- دلائل واضحة، وشرائع بينة تتعلق بأمر دينهم، بأن فصلنا لهم الحلال والحرام، والحسن والقبيح، والحق والباطل، فصاروا بذلك على علم تام بشريعتهم، بحيث لا يخفى عليهم شيء مما اشتملت عليه من أوامر أو نواه، أو حلال أو حرام.فالمقصود من هذه الجملة الكريمة أن الله- تعالى- قد أعطاهم شريعة واضحة لا غموض فيها ولا التباس، ولا عوج فيها ولا انحراف.بل إن شريعتهم قد أخبرتهم عن طريق رسلهم بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وبوجوب إيمانهم به عند ظهوره، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ .ثم بين- سبحانه- الموقف القبيح الذي وقفه بنو إسرائيل من نعم الله عليهم فقال:فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.والبغي: تجاوز الحق إلى الباطل في كل شيء. يقال بغت المرأة إذا أتت مالا يحل لها.وبغى فلان على فلان إذا اعتدى عليه، ومنه قوله- تعالى-: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ.والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو الأوقات، وقوله: بَغْياً مفعول لأجله.أى: أن بنى إسرائيل أنعمنا عليهم بتلك النعم الدينية والدنيوية، فما اختلفوا في أمور دينهم التي وضحناها لهم، إلا عن علم لا عن جهل، ولم يكن خلافهم في حال من الأحوال إلا من أجل البغي والحسد فيما بينهم، لا من أجل الوصول إلى الحق.فأنت ترى أن الجملة الكريمة توبخ بنى إسرائيل توبيخا شديدا، لأنها بينت أن خلافهم لم يكن عن جهل، وإنما كان عن علم، والاختلاف بعد العلم بالحق أقبح وأشنع، وأن اختلافهم لم يكن من أجل الوصول إلى الحق، وإنما كان سببه البغي والحسد.فهم قد اختلفوا في الحق مع علمهم به، لأن العلم كالمطر، لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة النقية، وكذلك لا يستفيد من العلم إلا أصحاب النفوس الصافية، والقلوب الواعية..والنفوس عند ما يستولى عليها الهوى، تحول المقتضى إلى مانع.ورحم الله الإمام الرازي فقد قال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: والمقصود من هذه الجملة، التعجب من أحوالهم، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف. وهاهنا صار مجيء العلم سببا لحصول الاختلاف، وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما المقصود منه طلب الرياسة والبغي .وقوله- تعالى-: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيان لحكم الله العادل فيهم.أى: إن ربك- أيها الرسول الكريم- يقضى بين هؤلاء المختلفين يوم القيامة، بقضائه العادل، بأن ينزل بهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ما كانوا يختلفون فيه من أمر الدين، الذي جعل الله أحكامه واضحة لهم، ولا تحتمل الاختلاف أو التنازع.
ثُمَّ جَعَلْنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿18﴾
التفسير:
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يتمسك بالدين الذي أوحاه إليه، فقال:ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها.والشريعة في الأصل تطلق على المياه والأنهار التي يقصدها الناس للشرب منها، والمراد بها هنا: الدين والملة، لأن الناس يأخذون منهما ما تحيا به أرواحهم، كما يأخذون من المياه والأنهار ما تحيا به أبدانهم.قال القرطبي: الشريعة في اللغة: المذهب والملة. ويقال لمشرعة الماء- وهي مورد الشاربة- شريعة. ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد. فالشريعة: ما شرع الله لعباده من الدين، والجمع الشرائع والشرائع في الدين المذاهب التي شرعها الله- تعالى- لخلقه .أى: ثم جعلناك- أيها الرسول الكريم- على شريعة ثابتة، وسنة قويمة، وطريقة حميدة، من أمر الدين الذي أوحيناه إليك، فَاتَّبِعْها اتباعا تاما لا انحراف عنه وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ من أهل الكفر والضلال والجهل.وقد ذكروا أن كفار قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ارجع إلى دين آبائك، فإنهم كانوا أفضل منك، فنزلت هذه الآية.
إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا۟ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْـًۭٔا ۚ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۖ وَٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴿19﴾
التفسير:
وقوله- سبحانه-: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً تعليل للنهى عن اتباع أهوائهم.أى: إنك- أيها الرسول الكريم- إن اتبعت أهواء هؤلاء الضالين، صرت مستحقا لمؤاخذتنا، ولن يستطيع هؤلاء أو غيرهم، أن يدفع عنك شيئا مما أراده الله- تعالى- بك.وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أى: بعضهم نصراء بعض في الدنيا، أما في الآخرة فولايتهم تنقلب إلى عداوة.وَاللَّهُ- تعالى- هو وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الذين أنت إمامهم وقدوتهم، فاثبت على شريعتنا التي أوحيناها إليك، لتنال ما أنت أهله من رضانا وعطائنا.
هَٰذَا بَصَٰٓئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًۭى وَرَحْمَةٌۭ لِّقَوْمٍۢ يُوقِنُونَ ﴿20﴾
التفسير:
ثم أثنى- سبحانه- على القرآن الكريم الذي أنزله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم فقال: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.والبصائر: جمع بصيرة- وهي للقلب بمنزلة البصر للعين. فهي النور الذي يبصر به القلب هدايته، كما أن البصر هو النور الذي تبصر به العين طريقها.وقوله: هذا مبتدأ، وبصائر خبره، وجمع الخبر باعتبار ما في القرآن من تعدد الآيات والبراهين.أى هذا القرآن الذي أنزلناه إليك- أيها الرسول الكريم- بَصائِرُ لِلنَّاسِ لأن ما فيه من حجج وبراهين، تكشف للقلب طريق الحق، كما تكشف العين للإنسان مساره وهو- أيضا- هُدىً أى: هداية عظيمة إلى الرشاد والسعادة وَرَحْمَةٌ واسعة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أى: لقوم من شأنهم الإيقان بأنه من عند الله- تعالى-، وبأنك- أيها الرسول الكريم- صادق فيما تبلغه عن ربك.وخص الموقنين بالذكر، لأنهم هم الذين ينتفعون بحجج القرآن الكريم، وبهداياته، أما الذين في قلوبهم مرض أوشك، فإنهم لا ينتفعون بذلك.قال- تعالى-: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ .وقال- سبحانه-: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ .ثم فرقت السورة الكريمة بين حال الذين يجترحون السيئات، وحال الذين يعملون الصالحات، وحكت جانبا من أقوال المشركين، وردت عليهم بما يبطلها، فقال- تعالى-:
أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُوا۟ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءًۭ مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿21﴾
التفسير:
وأَمْفي قوله- تعالى-: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِمنقطعة، وتقدر ببل والهمزة، وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان.والاجتراح: الاكتساب، ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدى. ويقال: فلان جارحة أهله، أى: هو الذي يكتسب لهم أرزاقهم.وحسب: فعل ماض، والذين فاعله، وجملة أَنْ نَجْعَلَهُمْساد مسد المفعولين.والمعنى: بل أحسب الذين اكتسبوا ما يسوء من الكفر والمعاصي، أن نجعلهم متساوين مع الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات في دار الدنيا أو في الدار الآخرة؟كلا!! لا يستوون فيهما، فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يحيون في الدنيا حياة طيبة لا مكان فيها للهموم والأحقاد والإحن ببركة إيمانهم، وفي الآخرة ينالون رضا الله- تعالى- وحسن ثوابه.أما الذين اجترحوا السيئات فهم في شقاء في الدنيا وفي الآخرة.قال الشوكانى قرأ الجمهور سَواءًبالرفع على أنه خبر مقدم. والمبتدأ محياهم ومماتهم. والمعنى إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم سواء.وقرأ حمزة والكسائي وحفص سَواءًبالنصب على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور في قوله: كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أو على أنه مفعول ثان لحسب .وقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَأى بئس حكما حكمهم هذا الذي زعموا فيه تسويتنا بين الذين اجترحوا السيئات، والذين آمنوا وعملوا الصالحات.فالمقصود بهذه الجملة الكريمة، توبيخهم على أحكامهم الباطلة، وأفكارهم الفاسدة.قال الآلوسى: قوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَأى: ساء حكمهم هذا، وهو الحكم بالتساوي، فما مصدرية، والكلام إخبار عن قبح حكمهم المعهود.ويجوز أن يكون لإنشاء ذمهم على أن ساءَبمعنى بئس، فتكون كلمة مانكرة موصوفة، وقعت تمييزا مفسرا لضمير الفاعل المبهم والمخصوص بالذم محذوف أى: بئس شيئا حكموا به ذلك .
وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍۭ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿22﴾
التفسير:
ثم أكد- سبحانه- عدم المساواة بين الفريقين فقال: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أى خلقهما خلقا ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل.وقوله وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ معطوف على مقدر يفهم من سياق الكلام.أى: خلقهما بالحق ليبرهن بذلك على وحدانيته وقدرته. ولتجزى كل نفس يوم القيامة بسبب ما اكتسبته من أعمال.ويصح أن يكون معطوفا على قوله بِالْحَقِّ. أى: خلقهما بالحق المقتضى للعدل بين العباد، ولتجزى كل نفس بما كسبت، فهو من عطف المسبب على السبب.وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أى: الخلائق المدلول عليهم بقوله كُلُّ نَفْسٍ لا يلحقهم شيء من الظلم يوم القيامة، لأن الله- تعالى- قد كتب على نفسه أنه لا يظلم أحدا.
أَفَرَءَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍۢ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِۦ وَقَلْبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةًۭ فَمَن يَهْدِيهِ مِنۢ بَعْدِ ٱللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿23﴾
التفسير:
والاستفهام في قوله- سبحانه-: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ للتعجب من حال هؤلاء المشركين، ولتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عما أصابه منهم من أذى.والمراد بهواه: ما يستحسنه من تصرفات، حتى ولو كانت تلك التصرفات في نهاية القبح والشناعة والجهالة.والمعنى: انظر وتأمل- أيها الرسول الكريم- في أحوال هؤلاء الكافرين فإنك لن ترى جهالة كجهالاتهم، لأنهم إذا حسن لهم هواهم شيئا اتخذوه إلها لهم، مهما كان قبح تصرفهم، وانحطاط تفكيرهم، وخضعوا له كما يخضع العابد لمعبوده.قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا. فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول.وقوله: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أى: وأضل الله- تعالى- هذا الشقي، بأن خلق فيه الضلالة، على علم منه- سبحانه- بأن هذا الشقي أهل لذلك لاستحبابه العمى على الهدى.فيكون قوله عَلى عِلْمٍ حال من الفاعل، أى أضله- سبحانه- حالة كونه عالما بأنه من أهل الضلال.ويصح أن يكون حالا من المفعول، أى: وأضل الله- تعالى- هذا الشقي، والحال أن هذا الشقي عالم بطريق الإيمان، ولكنه استحب الغي على الرشد.وقوله وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ والختم: الوسم بطابع ونحوه، مأخوذ من وضع الخاتم على الشيء، وطبعه فيه للاستيثاق، لكي لا يخرج منه ما بداخله ولا يدخله ما هو خارج عنه.أى: وطبع على سمعه وقلبه، فجعله لا يسمع سماع تدبر وانتفاع، ولا يفقه ما فيه هدايته ورشده.وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أى: وجعل على بصره غطاء، يحجب عنه الرؤية السليمة للأشياء وأصل الغشاوة ما يغطى به الشيء، من غشاه إذا غطاه.والاستفهام في قوله- تعالى-: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ للإنكار والنفي.أى: لا أحد يستطيع أن يهدى هذا الإنسان الذي اتخذ إلهه هواه من بعد أن أضله الله- عز وجل-.أَفَلا تَذَكَّرُونَ أى: أفلا تتفكرون وتتأملون فيما سقت لكم من مواعظ وعبر، تفكرا يهديكم إلى الرشد، ويبعثكم على الإيمان.فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة، تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم عما أصابه من المشركين، وتعجيب من أحوالهم التي بلغت الغاية في الجهالة والضلالة. ودعوة لهم إلى التذكر والاعتبار، لأن ذلك ينقلهم من الكفر إلى الإيمان.
وَقَالُوا۟ مَا هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴿24﴾
التفسير:
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك جانبا من أقوالهم الباطلة فقال: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ.أى: وقال هؤلاء المشركون على سبيل الجهل والعناد والجحود للحق، ما الحياة إلا هذه الحياة الدنيوية التي نحياها فيها، وليس هناك حياة سواها، فنحن نموت ثم يحيا أولادنا من بعدنا أو يموت بعضنا ويحيا البعض الآخر إلى زمن معين، أو نكون أمواتا في أصلاب آبائنا، ثم نحيا بعد ذلك عند الولادة.وَما يُهْلِكُنا عند انتهاء آجالنا إِلَّا الدَّهْرُ أى: إلا مرور الزمان، وكر الأعوام وتقلب الشهور والأيام.قال ابن كثير ما ملخصه «يخبر- تعالى- عن قول الدهرية من الكفار، ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ... أى: ما ثمّ إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثمّ معاد ولا قيامة ...ولهذا قالوا: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ- أى: إلا مرور الأيام والليالى- فكابروا المعقول وكذبوا المنقول ...وفي الحديث الصحيح- الذي رواه الشيخان وغيرهما- عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يقول الله- تعالى-: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب ليله ونهاره.والمقصود من هذا الحديث النهى عن سب الدهر، لأن الله- تعالى- هو الخالق له، فمن يسب الدهر، فكأنما سب الله- تعالى- لأنه- سبحانه- هو الذي يقلب الليالى والأيام.وقد كان العرب في الجاهلية إذا ما أصابتهم شدة أو نكبة، قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال والمصائب إلى الدهر ويسبونه .وقوله- تعالى-: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ رد عليهم فيما قالوه من أقوال باطلة تتعلق بإنكارهم للبعث والحساب.أى: وليس لهم فيما زعموه من إنكارهم للبعث من علم مستند إلى نقل أو عقل، إن هم إلا يظنون ظنا مبنيا على الوهم والضلال.
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٍۢ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّآ أَن قَالُوا۟ ٱئْتُوا۟ بِـَٔابَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ ﴿25﴾
التفسير:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أى: وإذا تليت عليهم آيات القرآن، الواضحة في دلالتها على أن يوم القيامة حق، وأن الحساب حق.ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أى: ما كان ردهم على من يذكرهم بالبعث إلا أن قالوا لهم: أعيدوا إلينا آباءنا الذين ماتوا إن كنتم صادقين في قولكم:إن هناك بعثا وحسابا وثوابا وعقابا.وقوله حُجَّتَهُمْ- بالنصب- خبر كان، واسمها قوله: إِلَّا أَنْ قالُوا.وسمى- سبحانه- أقوالهم مع بطلانها حجة، على سبيل التهكم بهم، والاستهزاء بهذه الأقوال.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم سمى قولهم حجة وليس بحجة؟قلت: لأنهم أدلوا به كما يدلى المحتج بحجته، وساقوه مساقها، فسميت حجة على سبيل التهكم، أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة، أو لأنه في أسلوب قول القائل:تحية بينهم ضرب وجيع.. كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة.والمراد: نفى أن تكون لهم حجة ألبتة .
قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿26﴾
التفسير:
ثم ختم- سبحانه- هذه الآية بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فقال: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ أى: وأنتم في الدنيا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم في الدنيا، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بأن يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى للحساب والجزاء، وهذا اليوم وهو يوم القيامة آت لا رَيْبَ فِيهِ ولا شك في حدوثه.وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك، لاستيلاء الهوى والشيطان على قلوبهم، ولو عقلوا لعلموا أن من أنشأ الإنسان من العدم، قادر على إعادته بعد موته من باب أولى.ثم أخذت السورة الكريمة في أواخرها في تذكير الناس بأهوال يوم القيامة لكي يستعدوا للقاء هذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح، فذكرتهم بأحوال الأخيار والأشرار في هذا اليوم العصيب، وبينت لهم أن الندم لن ينفع في هذا اليوم.. فقال- تعالى-:
وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍۢ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ ﴿27﴾
التفسير:
قال الإمام الرازي: قوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أنه- تعالى- لما احتج بكونه قادرا على الإحياء في المرة الأولى، وعلى كونه قادرا على الإحياء في المرة الثانية في الآيات المتقدمة، عمم بعد ذلك الدليل فقال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى: لله- تعالى- القدرة على جميع الممكنات سواء أكانت من السموات أم من الأرض .أى: لِلَّهِ- تعالى- وحده مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وتصرفا وإحياء وإماتة لا راد لقضائه. ولا معقب لحكمه.ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة الكافرين يوم القيامة فقال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ.أى: ولله- تعالى- ملك السموات والأرض، وله- أيضا- ملك وقت قيام الساعة،لأنه لا يستطيع أحد أن يعلم وقت قيامها، أو يتصرف فيه، إلا هو- عز وجل- وفي اليوم الذي تقوم فيه الساعة يخسر المبطلون، أنفسهم وأهليهم، ويصيرون في حال شديدة من الهم والغم والكرب، لأنهم كذبوا بهذا اليوم، وكفروا به وقالوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ.قال الشوكانى وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ أى: المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل، يظهر في ذلك اليوم خسرانهم لأنهم يصيرون إلى النار، والعامل في يَوْمَ هو الفعل يَخْسَرُ ويومئذ بدل منه، والتنوين للعوض عن المضاف إليه المدلول عليه بما أضيف إليه المبدل منه، فيكون التقدير: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يوم تقوم الساعة، فيكون بدلا توكيديا.والأحسن أن يكون العامل في يَوْمَ هو مُلْكُ- أى: ما يدل عليه هذا اللفظ.أى: ولله- تعالى- ملك السموات والأرض- وملك يوم تقوم الساعة، ويكون قوله يَوْمَئِذٍ معمولا ليخسر.. .وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ .
وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍۢ جَاثِيَةًۭ ۚ كُلُّ أُمَّةٍۢ تُدْعَىٰٓ إِلَىٰ كِتَٰبِهَا ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿28﴾
التفسير:
ثم يعرض- سبحانه- مشهدا من مشاهد هذا اليوم الهائل الشديد فيقول: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً.وقوله: - سبحانه-: جاثِيَةً من الجثو وهو الجلوس على الركب بتحفز وترقب وخوف.يقال: جثا فلان على ركبتيه يجثو جثوا وجثيا، إذا برك على ركبتيه وأنامله في حالة تحفز، كأنه منتظر لما يكرهه.أى: وترى- أيها العاقل- في هذا اليوم الذي تشيب من هوله الولدان، كل أمة من الأمم متميزة عن غيرها، وجاثية على ركبها، مترقبة لمصيرها في تلهف وخوف فالجملة الكريمة تصور أهوال هذا اليوم، وأحوال الناس فيه، تصويرا بليغا مؤثرا، يبعث على الخوف الشديد من هذا اليوم، وعلى تقديم العمل الصالح الذي ينفع صاحبه يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.وقوله كُلَّ أُمَّةٍ مبتدأ، وقوله تُدْعى إِلى كِتابِهَا خبره. أى: كل أمة تدعى إلى سجل أعمالها الذي أمر الله- تعالى- ملائكته بكتابته لتحاسب عليه.وقوله: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مقول لقول مقدر. أى: ويقال لهم جميعا في هذا الوقت: اليوم تجدون جزاء أعمالكم التي كنتم تعملونها في الدنيا من خير أو شر.
هَٰذَا كِتَٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿29﴾
التفسير:
ويقال لهم- أيضا-: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ.أى: هذا كتابنا الذي سجلته عليكم الملائكة، يشهد عليكم بالحق، لأنه لا زيادة فيما كتب عليكم ولا نقصان، وإنما هي أعمالكم أحصيناها عليكم.قال القرطبي: قوله- تعالى-: هذا كِتابُنا قيل من قول الله لهم. وقيل من قول الملائكة.يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ أى: يشهد. وهو استعارة، يقال: نطق الكتاب بكذا، أى:بين. وقيل: إنهم يقرءونه فيذكرهم الكتاب ما عملوا، فكأنه ينطق عليهم.دليله قوله- تعالى-: وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وقوله- سبحانه-: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.وقوله: يَنْطِقُ في موضع الحال من الكتاب» .وقال الجمل في حاشيته: فإن قيل: كيف أضيف الكتاب إليهم في قوله: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا.وأضيف هنا إلى الله- تعالى- فقال: هذا كِتابُنا؟فالجواب أنه لا منافاة بين الأمرين، لأنه كتابهم بمعنى أنه مشتمل على أعمالهم، وكتاب الله، بمعنى أنه- سبحانه- هو الذي أمر الملائكة بكتابته .وقوله- سبحانه-: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعليل للنطق بالحق، أى:إنا كنا نأمر ملائكتنا بنسخ أعمالكم، أى: بكتابتها وتثبيتها عليكم في الصحف، حسنة كانت أو سيئة، فالمراد بالنسخ هنا: الإثبات لا الإزالة.
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِۦ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ ﴿30﴾
التفسير:
ثم فصل- سبحانه- ما يترتب على ما سبق من أحكام فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أى: فيدخلهم- سبحانه- في جنته ورضوانه.ذلِكَ العطاء الجزيل هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الذي لا يدانيه فوز.
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًۭا مُّجْرِمِينَ ﴿31﴾
التفسير:
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع والزجر:أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أى: أفلم تأتكم رسلي بآياتى الدالة على وحدانيتي وعلى صدقهم فيما يبلغونه عنى؟ بلى لقد جاءكم رسلي بآياتى.فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الاستماع إليهم، وعن الاستجابة لهم، واتباع دعوتهم.وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أى: وكنتم في الدنيا قوما عادتكم الإجرام، واجتراح السيئات، واقتراف المنكرات.
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّۭ وَٱلسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّۭا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴿32﴾
التفسير:
وَإِذا قِيلَ لكم في الدنيا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أى: إن ما وعد الله- تعالى- به من البعث والحساب حق وصدق وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها أى: لا شك فيها.قُلْتُمْ على سبيل العناد والجحود ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أى: قلتم على سبيل الإنكار لها، والاستبعاد لحصولها: لا نعرف أن هناك شيئا اسمه الساعة، ولا نعترف بها اعترافا يدل على إيماننا بها.إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أى: كنتم في الدنيا تقولون: لا نوقن ولا نؤمن بحدوث الساعة، ولكنا نظن ونتوهم أن هناك شيئا اسمه الساعة، وما نحن بمستيقنين بإتيانها.ولعل هذا الكلام الذي حكاه القرآن الكريم عنهم، هو كلام الشاكين المتحيرين من الكافرين أما الجاحدون منهم فهم الذين حكى القرآن عنهم أنهم قالوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ...
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـَٔاتُ مَا عَمِلُوا۟ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا۟ بِهِۦ يَسْتَهْزِءُونَ ﴿33﴾
التفسير:
ثم بين- سبحانه- ما ترتب على هذه الأقوال الباطلة من نتائج فقال: وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أى: وظهر لهؤلاء الكافرين سيئات أعمالهم على حقيقتها التي كانوا لا يتوقعونها.وَحاقَ بِهِمْ أى: وأحاط ونزل بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أى: في الدنيا، فقد كانوا في الدنيا ينكرون البعث والحساب والجزاء ويستهزئون بمن يحدثهم عن ذلك. فنزل بهم العذاب المهين، جزاء استهزائهم وإنكارهم.
وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَىٰكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا وَمَأْوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّٰصِرِينَ ﴿34﴾
التفسير:
وَقِيلَ لهم على سبيل التأنيب والزجر الْيَوْمَ نَنْساكُمْ أى: نهملكم ونترككم في النار كَما نَسِيتُمْ أنتم في الدنيا وأنكرتم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وهو يوم القيامة وَمَأْواكُمُ النَّارُ أى: ومسكنكم الذي تأوون إليه النار وبئس القرار.وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ أى: وليس لكم من ناصرين ينصرونكم، ويخففون عنكم هذا العذاب الذي حل بكم.
ذَٰلِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوًۭا وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا ۚ فَٱلْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴿35﴾
التفسير:
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي أدت بهم إلى هذا المصير السيئ فقال: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً.أى: ذلكم العذاب المبين الذي نزل بكم سببه أنكم استهزأتم بآيات القرآن الكريم، وسخرتم منها، وكذبتم من جاء بها.وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أى: وخدعتكم الحياة الدنيا بزخارفها ومتعها وشهواتها.فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها أى: من النار.وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أى: ولا هم يطلب منهم أن يرضوا ربهم، بأن يتوبوا إليه مما كان منهم من كفر وفسوق في الدنيا، لأن التوبة قد فات أوانها.فقوله: يُسْتَعْتَبُونَ من العتب- بفتح العين وسكون التاء- وهي الموجدة. يقال:عتب عليه يعتب، إذا وجد عليه، فإذا فاوضه فيما عتب عليه فيه، قيل: عاتبه.والمقصود من الآية الكريمة أن هؤلاء الكافرين لا يقبل منهم في هذا اليوم عذر أو توبة.
فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلْأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ ﴿36﴾
التفسير:
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بقوله: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ أى: فلله- تعالى- وحده الحمد والثناء رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا رب سواه ولا خالق غيره.
وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴿37﴾
التفسير:
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ أى: العظمة والسلطان والجلال فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.قال ابن كثير: أى: هو العظيم الممجد الذي كل شيء خاضع لديه. فقير إليه وفي الحديث الصحيح يقول الله- تعالى-: «العظمة إزارى، والكبرياء ردائي، فمن نازعنى واحدا منهما أسكنته ناري» .وَهُوَ الْعَزِيزُ أى: الذي لا يغالب ولا يمانع، الْحَكِيمُ في أقواله وأفعاله .وبعد فهذا تفسير محرر لسورة «الجاثية» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
-